تخيل نفسك في طريق طويل ومتعرج مظلم، مليء بالحفر والأدوية والجبال والممرات الضيقة، وأنت تسير مغمض العينين، ولكن هناك من يأخذ بيدك ويسير بك ليوصلك إلى نهاية الطريق.
ترى هل ستصل للمكان الذي تريده؟
أو الأفضل أن تسأل نفسك، هل ستصل أصلاً؟!
كيف ستصل؟
كم مرة ستقع وتتوتر وتصاب وتتأذى لعدم أخذك إلى غايتك كما تحب وترغب؟
ربما ستقع معه في وادٍ أو حفرة وربما لن تخرج منها إلَّا بعد عدة خسارات، أو لن تخرج منها أبداً، فالقائد هنا لست أنت بل شخص آخر.
قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}،هنا يقصد أن الغاية من (استعمركم فيها) أن الهدف من وجودكم على هذه الأرض هي عمارة أنفسكم وبناؤها كما يجب.
وجاء في آية أخرى قوله ـ الكريم ـ : {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.فمن الممكن أن يسعى الانسان ويكون على هذه الأرض وهو يظن أنّه في الطريق الصحيح.
كل ماذكرناه يعود إلى كون الانسان قائداً لنفسه، أم هناك من يقوده؟
قائد أم منقاد؟
وهل المطلوب منه هذا أم ذاك أم كلاهما معاً؟
بل كيف تكون القيادة الصحيحة؟
كن قائد ذاتك
على كل منَّا أن يخطط لذاته ويرسم لها طريقها وفق معايير يراها هي الأصح والأفضل للوصول إلى هدفه المنشود، وإلَّا كان حتماً في مخططات الآخرين.
وقد ذكرنا في مقالات سابقة عن موضوع معرفة القدرات والامكانيات التي وهبنا الله اياها ومعرفتها وتفعيلها بشكل منظم لتوظيفها في مكانها في مجالات الحياة المختلفة، فبعد أن يتعرف الانسان على قدراته ويفعلها، تكون بيده دفة القيادة لابيد غيره.
ولكن لا تبدأ قيادة الذات بفهم الشخص لذاته فقط، بل أيضاً تستلزم معرفة كيفية تنظيم المهارات العديدة والكفاءات الضرورية لقيادة الذات.
إنَّ إتقان مهارة القيادة الذاتية مهم لنفس السبب في امتلاكنا أهداف في المكانة الأولى، وهذا السبب هو كوننا نريد أن نملك الرأي فيما يدور حولنا في حياتنا
وذلك يشمل تحديد قيمك ونقاط قوتك، وتحديد الأهداف، وإنشاء الخطط، وتعزيز حماستك وقوة إرادتك، وزيادة المرونة لديك وممارسة اليقظة والمراقبة الذاتية، وإدراك التحيز المعرفي وتنمية الاستعداد لتقبل الفشل وما أشبه.
أهمية اتقان مهارة قيادة الذات
إنَّ إتقان مهارة القيادة الذاتية مهم لنفس السبب في امتلاكنا أهداف في المكانة الأولى، وهذا السبب هو كوننا نريد أن نملك الرأي فيما يدور حولنا في حياتنا.
و بالتأكيد لا يمكننا التحكم في كل التفاصيل، ولكن تلك ليست الغاية المقصودة، بل الغاية هي اتخاذ طريق لحياتنا نشعر بانجذاب نحوه، وأيضاً عن تعقب طموحنا والتعبير عن قوتنا الكامنة بقدر المستطاع، بل إنها عن العيش بأفضل نسخة ممكنة لنا.
قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
فهذه النفس أمانة لدينا أودعها الله في هذا الجسد، ليس للعناية بالجسد فحسب، وليس بتركها لمن حولها يلعب بها يمنة وشمالاً ويأخذها حيث يشاء، بل هو مسؤول عنها وعن تزكيتها وتطهيرها ثم بناءها كما يحبُّ الله ويرضى.
وعلينا أن نلتفت إلى أنَّ القيادة الذاتية ضرورية جداً، الَّا أنَّ الضرورة التي تليها هي القيادة الربانية، لأن الانسان مهما كانت إمكانياته وقدراته ومعارفه متميزة وذات قيمة يعتدُّ بها إلَّا أنَّه محدود المعارف والقدرات والامكان، لذلك يحتاج إلى قيادة أعلى بعد أن يقود هو نفسه بنفسه، قيادة تمتلك صفات العصمة والاتصال الرباني، فالقيادة التي يبحث عنها القرآن الكريم هي الزعامة المتجهة نحو الله ـ تعالى ـ في بُعديها الاجتماعي والمعنوي، بخلاف ما يفهمه البشر في العالم المعاصر من القيادة بأنّها مجرّد زعامة اجتماعية، لأنّه يحتاج إلى القيادة بطبيعته.
بعض الأمثلة عن القائد الإسلامي:
1- ابراهيم، عليه السلام، القائد الامام :
قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}.
فقد كانت قيادته وإمامته للبشر التي أعطاه الله إياها بعد عدة اختبارات وابتلاءات من أرفع وأعظم المقامات التي منحها الله ـ عزوجل ـ له ، وقد حاز أئمتنا، عليهم السلام، على هذا المقام الرفيع وإن لم يكونوا أنبياء، إلا أنهم يسيرون على نفس طريقهم، ويعبئون القوى، ويدعون الناس إلى نفس الرسالة التي دعا إليها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
قال تعالى : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}.
فهذه الأثقال ليست إلا التقاليد والخرافات، وهذه الأغلال ليست إلا عادات روحيّة تكبّل استعداداته وطاقاته المعنوية الزاخرة، التي أدّت به إلى الجمود والشقاء واليأس، ويأتي دور النبي بالقيادة من بُعدها الاجتماعي ليطلق سراح هذه القوى المقيَّدة، ويبثّ فيها النشاط والحيوية، ويأخذ بيدها في المسار الصحيح، فيجعل من أضعف الشعوب، بسبب القيادة الحكيمة، أمّة قويّة لا يفوقها قوّة.
٢- النبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم :
فالنبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يمتلك طاقة عقلية قادرة على التنظير والتطبيق في آن واحد، وفي علم القانون يُذْكَر أن السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية لا يجب أن تُحصرَ في ذات الشخص، إلا أنَّ النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، كان استثناء لما ذكروه لأنَّه الأكثر كفاءة وقدرة على جمعها.
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}.
من صفات القائد الرشيد تربية وتأهيل الطاقات، قال أمير المؤمنين، عليه السلام، في نهج البلاغة واصفاً علاقته بالرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله: … “يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه”
وقال ـ تعالى ـ أيضاً: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، فهو عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، القادر على التزكية وعلى التعليم.
كما تميز النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، بالروح النهضوية، دائماً ينطلق نحو التغيير والابداع والنتاج الأفضل.
وتميّز، صلى الله عليه وآله وسلم، بالاستقامة وهذه الصفة من أهم صفات القيادة الفاعلة، واتصف، صلى الله عليه وآله وسلم، بالاخلاص، حيث أنه تفانى ليحقق الهدف من تنصيبه كنبي ومرسل، وتحمل ماتحمل من أذى.
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
وأيضاً من الصفات التي تميز فيها نبينا الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، كقائد هو الزهد، فكان يلبس الخشن من الثياب ويأكل البسيط من الطعام، ويسكن بيتاً من سعف النخل، وكان يربط حجراً على بطنه، صائماً نهاره قائماً ليله.
والصفة الأبرز التي تمتع بها، صلى الله عليه وآله وسلم، هي الرشد، ومعنى الرشد هو الوعي لدرجة حسن ادارة المجتمع، والرشيد يتمتع بالعقلية المؤسساتية فالقائد الناجح يفتح مجالاً للمشاركة في القرار لمن حوله ليربِّي بذلك قادة من بعده؛ قال ـ تعالىـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
حقيقة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لايحتاج للمشورة ولكن الغرض منها هنا تربية من حوله على القيادة، فقد ورد عن أمير المؤمنين، عليه السلام: “من شاور الناس شاركهم عقولهم، ومن استبد برأيه هلك”.
كما ومن صفات القائد الرشيد تربية وتأهيل الطاقات، قال أمير المؤمنين، عليه السلام، في نهج البلاغة واصفاً علاقته بالرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله: “وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه،… إلى أن قال: يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه”، وهذا أقوى مثال لتأهيل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لطاقات أمير المؤمنين، عليه السلام، والكثير من صفات القادة التي تمتع بها نبينا الأكرم، لايسعنا ذكرها.
٣- أمير المؤمنين علي، عليه السلام
فلو سأل سائل كيف امتلك سحر الشخصية وما هي طرق التأثير على الآخرين؟
لقلنا في معرض الجواب أن هذه العوامل والطرق يجب اقتباسها من خلال متابعة حياة أمير المؤمنين، عليه السلام، و بعض جوانبها الثقافة الواسعة، وحسن الخطابة واللباقة وحسن الطرح واقناع الآخرين، فهو سيد البلاغة والفصاحة، والقدرة على اتخاذ القرارات، وتحقيق الانجازات.
وأخيراً نرى أنَّ القيادة الشرعية ضرورة من ضرورات الواقع الإنساني في شتَّى ميادينه، وهي الضمانة لتحقيق القِيم الإسلامية، والأهداف الرَّبانيَّة، ورعايتها، والحفاظ عليها.