أي قضية لن يصل فيها صاحبها الى نتيجة تذكر إلا اذا تفاعل معها بروحه وعقله وقلبه الى حد التماهي حتى تتمحض لديه دون سائر القضايا، ثم تكون بالنسبة له مسؤولية و همّ أكبر يبذل من اجلها كل ما يملك، وأيّ قضية أكبر وأعظم من قضية الامام الحسين، عليه السلام، التي شغلت عقول العلماء والحكماء والمفكرين، كما شغفت قلوب ملايين الناس منذ حوالي أربعة عشر قرناً من الزمن، وهو ما تحسسه بكل مشاعره ومن أعماق قلبه ووجدانه، سماحة الشيخ الاستاذ محمد سعيد المخزومي، فكتب عن الإمام الحسين، عليه السلام، وهو يبعد عن مرقده الشريف آلاف الكيلومترات، حيث يقيم في قارة اميركا الشمالية (كندا)، فأضاء من فكره النيّر، وأسلوبه الشيّق ومنهجه التوثيقي ليخرج لنا كتاباً رائعاً وقيّماً تحت عنوان: “الامام الحسين، عليه السلام، مسؤولية الأمة”، ليعطي بُعداً رسالياً بامتياز لما جرى يوم عاشوراء، ثم بلورة أبعاد العلاقة مع الأمة بما فيها من علم وجهل، وضلال ورشاد، وتسطيح وعمق، وأزمات ومشاكل لا تُعد، فهي إن ارادت الخلاص ما عليها إلا العودة الى دروس وعِبر عاشوراء.
الكتاب الذي بين أيدينا من القطع الوزيري بواقع 668 صفحة مع الفهرسة، مكوّن من ثلاثة ابواب أثراها سماحة الشيخ المؤلف بتفريعات وشروحات بلورت الافكار بشكل رائع، وتحاشياً للإطالة بالمقام، ارتأينا نشر القراءة على ثلاث حلقات تشمل الابواب الثلاثة: معرفة الأمة بالإمام الحسين، والباب الثاني: زيارة الامام الحسين، والباب الثالث: الأمة مسؤولة عن دم الإمام الحسين، ومن كل باب تتفرع فصول ومباحث، وجدنا من الضروري تسليط الضوء عليها لتعميم الفائدة.
المعرفة قبل تحمّل المسؤولية
لن يكون هنالك تحمل للمسؤولية ما لم يقابلها معرفة بهذه المسؤولية، وما هي الاسباب الموجبة، ومن يقف خلف هذه المسؤولية، ولعل أحد ابرز المشاكل في العلاقة بين المجتمع والثقافة بشكل عام تكمن في هذه المعرفة المفقودة، وإن وجدت فهي مضببة او مجزئة غير متكاملة وواضحة، لذا تكثر النداءات والدعوات ولا من يتحمل المسؤولية إزاء قضايا مختلفة، حتى وإن تعلق مصير هذا المجتمع والأمة بهذه المسؤولية، لأن “الناس أعداء ما جهلوا”، “فقد جهلوا الامام الحسين، عليه السلام، وماعرفوه فقلته منهم من قتله، وتطاول عليهم من تطاول، ووضعه من وضعه وراء ظهره، وقتلوا ومازالوا يقتلون من يحبه ويتولاه”، يقول الشيخ المؤلف.
سماحة الشيخ المؤلف يميّز بين “التهلكة” التي ربما يلتبس على البعض فيما يتعلق بواقعة عاشوراء، ويؤكد أنها “المتاجرة مع الله -تعالى- وليست التهلكة، والحكمة الإلهية جرت في تمكين الانسان في الحياة وتسخير كل شيء له
إن ما آلت اليه الأمور بعد ظهيرة العاشر من محرم الحرام، يُنبئ عن “مستوى من المعرفة وضيع، ودرجة من الوعي الدنئ، ومرتبة من الفهم الوبئ، فكانت الامة بالنسبة الى معرفتها بالإمامة عموماً وبالحسين خصوصاً مراتباً وأصنافا”.
ومن هذا المنطلق يفصّل سماحة الشيخ المؤلف اصناف الأمة محدداً مسؤولية كل صنف تجاه الإمام الحسين، في حياته وبعد استشهاده، وهذا من خلال عدة ثلاثة فصول:
الفصل الأول: المعالم الرئيسية للمعرفة بالإمام الحسين، عليه السلام
وفيه مباحث: جاء في المبحث الأول: أصناف المسلمين نسبة الى معرفتهم بالإمام الحسين، عليه السلام، ويتفرع المؤلف في هذا المبحث مسلطاً الضوء على ثلاثة اصناف من الناس في معرفتهم للإمام الحسين: المنكرون، والجاهلون، والمؤمنون.
ومن الجدير تسليط الضوء على الجاهلين لشخصية وقضية الإمام الحسين، عليه السلام، فهي الشريحة الأكبر في الأمة، فهؤلاء يعرفون الامام الحسين، ابن بنت رسول الله، ولكن لا يعرفون أعدائه، ويعبر عنها سماحة المؤلف بانها “معرفة بسيطة لا يترتب عليها أي أثر ديني ملموس، ولا انساني محسوس، وهذه المعرفة البسيطة جداً صنعها الأمويون لهذه الامة كي يرتبوا -هُم- للناس الأثر الذي يجب ان يعتقدوه في الامام الحسين وأهل البيت، عليهم السلام، حسب مقتضيات المشروع الأموي”.
اصحاب هذه المعرفة البسيطة يسقطون فريسة الثقافة الأموية التي ما نزال نلاحظ ذيولها حتى اليوم في الأسس الفكرية الهشّة لدى شريحة كبيرة من افراد الامة سمحوا للآخرين أن يكونوا ورقة بيضاء يملون عليها ما يريدون من افكار ومواقف ورؤى، كما هو حاصل لدى شريحة من ابناء السنّة، وحتى شريحة من المجتمع الشيعي الذي ما يزال يتخبط في التشكيك والتضعيف في قضية الامام الحسين، عليه السلام.
وفي الفصل الثاني يؤكد المؤلف على “وجوب معرفة الإمام” في ضوء الحديث النبوي الشريف: “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”، بما يعني أن القضية ليست من الترف الفكري أو غير الضرورية، وإمكانية المعرفة في أي وقت كان، عندما نعرف أن الامويين تركوا بصماتهم في كتب الرواية والتاريخ وحرفوا حديث النبي الأكرم الى “من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية”، وجاء في بعض الكتب أن الراوي هو؛ معاوية! فالقارئ المسلم الذي يقرأ هذا الحديث يعد معاوية ومن على شاكلته هو المقصود بهذا الإمام!
في الفصل الثاني يؤكد المؤلف على “وجوب معرفة الإمام” في ضوء الحديث النبوي الشريف: “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”، بما يعني أن القضية ليست من الترف الفكري أو غير الضرورية، وإمكانية المعرفة في أي وقت كان
أما الفصل الثالث فيتضمن إجابة على سؤال راود الاذهان، وحاول البعض تحويلها الى شكوك او تساؤلات عن دوافع الإمام الحسين للخروج على الحكم الأموي رغم علمه بالنتائج، وأنه سيقتل.
سماحة الشيخ المؤلف يميّز بين “التهلكة” التي ربما يلتبس على البعض فيما يتعلق بواقعة عاشوراء، ويؤكد أنها “المتاجرة مع الله -تعالى- وليست التهلكة، والحكمة الإلهية جرت في تمكين الانسان في الحياة وتسخير كل شيء له، رحمة له من الله، ثم خلقه بحكمة ودقّة، وسيّره في طريق تكاملي يصعد به نحو الرقي والعلو، ثم السعادة الابدية”، وهذا يتحقق عندما يستثمر الانسان عقله للتفكّر في غايات هذه النعم والقدرات والامكانات الموهوبة له من قبل السماء، وأبرز هذه الغايات؛ “النجاح في إبرام عقد تجارة ناجحة بينه وبين الله تكون سبيلاً للسعادة الأبدية”، وهذا ما أقدم عليه الامام الحسين، عليه السلام.
ومما خلق المشهد العاشورائي الدامي وبإرادة خالصة من الإمام الحسين نفسه، “الظروف الموضوعية”، ومنها إدراك الخطر على مصير الدين ومستقبل الأمة على يد الحكم الأموي، ثم مستوى الوعي والثقافة الضَحلين للأمة آنذاك، والواقع الفاسد “الذي دفعه لاتخاذ أصعب قرار على نفسه، ويكون في وضع لا مناصّ معه من اتخاذ أصعب القرارات على نفسه كثمن لتغيير الواقع المر، كما أن ثمة استحقاقات امام الإمام، عليه السلام، في الساحة، أهمها بالنسبة له وهي؛ إسقاط الشرعية الدينية عن الحكم الأموي، وهذا لن يكون بعد ما التحمت الأمة بالنظام الفاسد بفعل التغرير والتهديد والركون الى الملذات والوعود الكاذبة، إلا بسلاح التضحية بالدم، وبالأهل.
لن يكون هنالك تحمل للمسؤولية ما لم يقابلها معرفة بهذه المسؤولية، وما هي الاسباب الموجبة، ومن يقف خلف هذه المسؤولية، ولعل أحد ابرز المشاكل في العلاقة بين المجتمع والثقافة بشكل عام تكمن في هذه المعرفة المفقودة،
ويذهب المؤلف الى أن نتائج عاشوراء له الفضل ليس فقط على اتباع أهل البيت، عليهم السلام، بل حتى على ابتاع المذاهب الاسلامية الاخرى، إذ “لولا مشروع الامام الحسين وتضحياته، وهو الإبقاء على حيوية الشريعة، وحرارة القيم والدين، ومصاديق القيم، لما بقي لأهل السنة تسننهم الذي هم عليه اليوم، فقد نشأت المذاهب السنيّة اليوم على هامش جهود الامام الحسين، عليه السلام”.
في ختام هذا الباب (معرفة الأمة بالإمام الحسين)، حريٌ بنا الإشادة بجهود سماحة الشيخ المؤلف في تركيزه على هذا الجانب الحساس والمحوري في الثقافة الحسينية، وقد أحسن وأجمل في الطرح، بإثراء علمي وبحثي، مع احساسه بالحاجة الى التفريعات الكثيرة والمتعددة في هذا الباب، كما هو الحال في الابواب التي تأتي تباعاً في هذه القراءة.
والقراءة مستمرة في حلقتين قادمتين، بإذن الله –تعالى-.