في 28 صفر الأحزان 11هـ انتقل الرسول الأكرم (ص) عن هذه الدنيا الفانية
مقدمة رحمية
في عقائدنا الإيمانية ومفاهيمنا القرآنية لدينا اسمين من أعظم الأسماء الحسنى للباري تعالى تدور حول الرحمة، وهما (الرحمن، والرحيم)، ولذا هما في المكانية والأهمية بعد لفظ الجلالة الجامع (الله)، لا سيما (الرحمن) فهو صفة واسم خاص للباري لا يتسمَّى به غيره كما يذهب العلماء والأعلام العارفين بأسرار الأسماء الحسنى لله تبارك وتعالى، فقال سبحانه في 114 مورداً بعدد سور القرآن الحكيم (بسم الله الرحمن الرحيم).
وليس ذلك فقط بل صارت عنواناً لتجلي جميع صفات الجلال والجمال في المخلوقات وأعني به رسول الرحمة والهداية محمد بن عبد الله (ص)؛ حتى قال: (إنما أنا رحمة مهداة)، فهو الرَّحمة العامة والواسعة الشاملة، والكاملة التامَّة، في هذه الدنيا، ولذا قال تعالى عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وهذه الرَّحمة لا تختصُّ بالبشر فقط، ولا حتى بالجن معهم وذلك لأن بعضهم قال: العالمَين يعني الإنس والجن، وهذا تضييق للمعنى وتحديد للرَّحمة، حيث فهموا من كلمة (العالمِين) هذا فقط، ولكن الحقيقة أنها تعني الجمع، أي أرسلناك رحمة لكل العوالم المعروفة وغير المعروفة، والمنظورة والمستورة، ففي كلها رسول الله، صلى الله عليه وآله، رحمة، وأي رحمة.
رسول الرحمة والسلام
في التاريخ البشري أرسل الله تعالى (124 ألف) نبي، وخمسة رسل من أولي العزم، وكلهم يمثلون تجلي من تجليات الرحمة الربانية، لأنهم كانوا مثالاً راقياً للرحمة والسلام الكوني، ولكن كان المثال الكامل والشامل للرحمة الربانية رسوله الخاتم محمد، صلى الله عليه وآله، لأن سيرته المباركة العطرة تُخبرنا عن تلك القيم الرحمانية الرحيمية التي كانت مثار العجب من كل مَنْ عاشره، أو سمع به – روحي فداه ـ فكانت أخلاقه عظيمة كما وصفها الباري في كتابه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وشيمه كريمة فهو الكريم ابن الكريم من نسل سادات كرام تناسلوا من أصل الجود والكرم من شجرة الأنبياء إبراهيم وإسماعيل، عليهم السلام، جذور الثرى وأهل الندى.
رحمة في عصر العصبية
لقد مثَّل رسول الله، صلى الله عليه وآله، الرحمة الربانية في عصر يُطلق عليه اسم الجاهلية وأهم ما كان يُميِّزه العصبية القبلية، والجهل بالقيم السماوية لاسيما التوحيد ففي مقر ومكان التوحيد راحوا يعبدون 360 صنماً عدا الأوثان وغيرها من المعبودات الباطلة، فمَنَّ الله عليهم بذلك الرسول الكريم وأنزل عليه الكتاب الحكيم ليُخرجهم من ظلمات الجهل والتخلف إلى أنوار العلم والتقدم.
ما أحوجنا في هذا العصر الجاهلي قيمياً الحضاري مادياً، الذي تاه فيه الإنسان ولا يعرف منقذ ومنجي له من كل هذه المشاكل والأزمات التي تعصف به، والحل الأمثل هي رسالة السماء ومنهج ورحمة سيد الأنبياء الحبيب المصطفى محمد، صلى الله عليه وآله
ولكن ما فَقِه أهل الجاهلية تلك الرسالة السماوية، وما عرفوا قيمة تلك الرحمة التي جاءتهم من أنفسهم، يعرفونه أصلاً وفصلاً ونسباً وحسباً وعاشوا معه وعاشروه حتى كانوا يُطلقون عليه: (الصادق الأمين)، ولكن عندما عرض عليهم الدعوة المنقذة ودعاهم بقوله: “يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم العجم“، ولكنهم أبوا عليه، ولجُّوا في عنادهم وعصبيتهم حتى طلبوا نزول العذاب من السماء، قال ـ تعالى ـ: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32)، ولكن رحمة الله بينهم كانت منجية ومنقذة لهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. (الأنفال: 33).
فما أعظمك، أرأفك، وألطفك، يا رسول الله يا رحمة الله التي دفعت العذاب عن طالبيه، وحجارة السماء عن مستحقيها من طغاة الجاهلية وأنت الذي ولدت في العام الذي نصر الله جدك عبد المطلب على أبرهة الحبشي وأباد جيشه وفيلته بأحجار السماء فجعلهم كعصف مأكول، ولكن وجودك المبارك يدفع عنهم العذاب، فالرحمة تدفع العذاب وترفع الشقاء والبلاء عنهم.
فتنة الأمة الإسلامية
لقد صبر رسول الله، صلى الله عليه وآله، على الأذى، وراح يبني أمته بالرحمة ويدعو الناس إلى منهجه بالمحبة والسلام، حتى بنى دولة وحضارة راقية خلال عقد فقط من الزمن، بمنهجه القويم وخُلُقه العظيم، وما انتقل إلى الرفيق الأعلى في مثل هذه الأيام الحزينة حتى تركهم على المحجة البيضاء، وخلَّف فيهم الثقلين الذين أمر بالتمسك بهما معاً في الحديث المتواتر، ولكنهم اتبعوا رجال قريش الذين أوصلوها إلى الشجرة الملعونة في القرآن؛ بني أمية الطلقاء اللعناء الذين أدخلوا الأمة في فتنة لم تخرج منها إلى اليوم بما سنُّوه من سُنن باطلة وأبطلوا السُّنن المحقة، والتي وصفها أعلم الناس وأخبرهم بها بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، أمير المؤمنين بقوله، عليه السلام: “إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ… أَلاَ وَإِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا… تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَلاَ عَلَمٌ يُرَى نَحْنُ أَهْلَ اَلْبَيْتِ مِنْهَا بِنَجَاةٍ بِمَنْجَاةٍ وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ“.
منهج الرحمة الحضارية
وما أحوجنا في هذا العصر الجاهلي قيمياً الحضاري مادياً، الذي تاه فيه الإنسان ولا يعرف منقذ ومنجي له من كل هذه المشاكل والأزمات التي تعصف به، والحل الأمثل هي رسالة السماء ومنهج ورحمة سيد الأنبياء الحبيب المصطفى محمد، صلى الله عليه وآله، فهو وأهل بيته الأطهار حبل النجاة، والقرآن الحكيم دستور الحياة الحرة الكريمة، وعلى كل العقلاء أن يدعوا إلى الرحمة والسلام هذه.
نحن المسلمين فإننا نستفيد من الرحمة الإلهية التي تجلت في رسول الله، صلى الله عليه وآله، بالرجوع إليها، ودراستها دراسة متأنية بعيدة عن التشنجات والعصبية المذهبية.
أما نحن المسلمين فإننا نستفيد من الرحمة الإلهية التي تجلت في رسول الله، صلى الله عليه وآله، بالرجوع إليها، ودراستها دراسة متأنية بعيدة عن التشنجات والعصبية المذهبية التي زادت على العصبية العربية “ويهلك العرب بالعصبية“، فإنها المعين الزلال، والنبع الفيَّاض بالقيم والمعنويات مقرنة القول بالعمل، أي النظرية من القرآن الحكيم، والتطبيقات العملية من سيرة سيد المرسلين، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الطاهرين.
وبذلك نضع البحوث والقوانين والتشريعات كلها بقالبها الطبيعي المعقول وننفي كل دخيل منها لا سيما تلك التي شوَّهت وجه التاريخ، وهي من الإسرائيليات التي غزتنا في كل شيء، وأدخلت في حياتنا كل قسوة وعنف بعيدة كل البعد عن منهج الرحمة الربانية والرسولية الراقية، فثقافتنا الإسلامية هي ثقافة الرحمة والمحبة والسلام مع كل شيء.
ولدينا تراث راقي جداً ولكنه مغمور ومهمل وغائب عن حياتنا فعلينا استخراجه ونشره في العالم أجمع وندعوا شعوب الأرض إلى حضارة الإسلام العظيم وقيمه الراقية، كمعاهدة العيش المشترك في المدينة (وثيقة المدينة)، وهي أول دستور مدني يُكتب في التاريخ، و(حلف المطيبين)، ورسائل الرسول، صلى الله عليه وآله، للملوك، وعهود أمير المؤمنين، عليه السلام، لعماله وولاته لا سيما لمالك الأشتر، و(رسالة الحقوق) للإمام زين العابدين، هذا التراث الإنساني علينا الآن إخراجه ودراسته، وشرحه، وتوضيحه ثم نشره في العالم وبكل لغة ممكنة لنقول لهم جميعاً: هذا هو الإسلام المحمدي، وليس الذي تحدث عنه البخاري وأمثاله، ويفعله قطعان الظلام الصهيووهابية التكفيرية المجرمة.
فمنهج الإسلام السلام والمحبَّة والرَّحمة والرِّفق بكل المخلوقات من أرقاها الإنسان وحتى أدناها، وما يُعاكس ويُعارض هذا المنهج هو من التوراة المحرفة والتلمود وثقافته من ثقافة رب الجنود المتعطش دائماً للدماء، والجائع للأشلاء؛ فالتوراة المحرفة طافحة بكل أنواع الجريمة التي نراها ونسمع فيها اليوم في هذا العصر وكل مَنْ يُمارسها فإنه تعلمها منهم، وتدرب عليها عندهم، وجاء ليُمارسها فينا وعلينا، بدعمهم وتشجيعهم وحمايتهم، فثقافتهم مركوزة على الدماء وثقافتنا ثقافة الرُّحماء.