يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “وليس شئ إثباته حقيقة نفيه إلا الجهل والدنيا والحرص، فالكل منهم كواحد، والواحد منهم كالكل”.
كما أن معرفة النفس هي ضرورة لمعرفة الحقائق، لأن معرفة النفس هي مفتاح المعارف، كذلك معرفة الدنيا وبعض المفاهيم ضرورية لمعرفة الحقائق ـ أيضا ـ، لأن الدينا هي القالب الذي يعيش فيه الإنسان، ولذلك من الضروري أن يعرف الإنسان هذه الدنيا حتى لا يُخدع بها، كذلك فإن معرفة الدينا هي للوقاية منها.
من يعرف الدنيا لا يطمئن اليها وهو معنى (نفيها)، يقول الإمام علي، عليه السلام: عظم الخالق في انفسهم فصغر ما دونه في اعينهم”
في المقالات السابقة كان الكلام عن معرفة النفس، لكن في هذا من سياق الرواية، يتعرض الإمام الى كيفية أن يعرف الإنسان الدنيا.
ففي البداية يعرف الإنسان نفسه؛ من جهل وتقلّب، وادبار واقبال، وما شابه، وبعد تلك المعرفة ينتقل الى الإطار الذي يعيش فيه وهي ـ الدنيا ـ.
يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “وليس شئ إثباته حقيقة نفيه إلا الجهل والدنيا والحرص، فالكل منهم كواحد، والواحد منهم كالكل”.
فلا يوجد شيء في هذا الوجود (اثباته)، أي معرفته حق المعرفة، أي المعرفة الكاملة والبالغة، فحقيقة هذه المعرفة أن تنفي هذا الشيء، جاء في الرواية: “كمال معرفته ـ اي الله ـ العجز عن معرفته”. فكمال المعرفة الإلهي هو الإقرار بالعجز عن معرفة الذات الإلهية.
فطبيعة الإنسان أن يكون عنده غرور وذلك بإدعائه معرفة كل شيء، فالله ـ تعالى ـ لا يمكن أن تعرف ذاته بهذه العقول، لذلك يقول الإمام علي، عليه السلام: “من تمنطق في ذات الله تزندق”. وهذا ما يؤدي الكفر والجحود.
الخارج لن يتغير؛ فهل مات الشيطان؟ أنه انه لا يزال موجودا؟ فشياطين الأنس والجن موجودين، وهناك الحق والباطل، وما اشبه، ولذلك إذا تغير الإنسان تغيّر الخارج من حوله
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: {وَأَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ} فَإِذَا انْتَهَى الْكَلاَمُ إِلَى اللَّهِ فَأَمْسِكُوا”. الإنسان لا يعرف نفسه التي بين جنبيه، فهل يستطيع الوصول الى الذات الإلهية؟
نعم؛ المعرفة الإلهية الصحيحة؛ هي معرفة العظمة والرحمة، وأن الله رازق، ورحيم وما اشبه، لكن كمال المعرفة أن يسلم الإنسان ويقر بأنه لا يستطيع معرفة الذات الإلهية.
فنحن لا نعرف عن الله ـ جل وعلا ـ إلا ما عرفناه هو على ذاته، جاء في دعاء الصباح لأمير المؤمنين، عليه السلام: “يا من دل على ذاته بذاته”، وجاء في حديث عنه، عليه السلام: “اعرفوا الله بالله”، ولذا يقول الله ـ تعالى ـ: {وما كنا لنهتدي لولا ان هادنا الله}.
فكمال معرفة الله أن يقر المرء أنه عاجز عن معرفة ذات الله، لانه ـ الإنسان ـ يعلم عبر هذه المعرفة انه لا يمكن الإحاطة به، وهذا هو كمال معرفة الله، أما الجهل فهو الظن على الإحاطة بمعرفة الله، فهو ـ تعالى ـ لا يُقاس بشيء فأي تصور في ذهن البشر عن الله، فذلك التصور بعيد عنه ـ سبحانه وتعالى ـ.
هل تنمو المعرفة مع خصلة سيئة؟
كيف ننفي الجهل، والدنيا، والحرص بالمعرفة؟
جاء في الرواية: عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها”، فتارة الحاكم محكوم، او العكس، والغني فقير، ـ وكمثال في الجانب العسكري والاقتصادي ـ بريطانيا كانت الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، اليوم اصبحت دولة صغيرة، وهكذا هم الحكّام؛ فأين صدام حسين اليوم؟ وأين بقية الحكام؟
لذلك من يعرف الدنيا لا يطمئن اليها وهو معنى (نفيها)، يقول الإمام علي، عليه السلام: عظم الخالق في انفسهم فصغر ما دونه في اعينهم”، والذي يعرف الدنيا يعلم أنها متاع الغرور، وأنها تزول، وانها، تغر وتضر وتمر، فمن يعرفها ـ الدنيا ـ على حقيقتها لا يتشبث بها، لكن الجاهل بها هو الذي يتعلق بها.
“وليس شئ إثباته حقيقة نفيه إلا الجهل والدنيا والحرص”، يقول الله ـ تعالى ـ{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، فالكثير متعلق بالدنيا لانه جاهل بها، لأنه لو عرفها لقال مثل الإمام علي، عليه السلام: “يا دنيا غري غيري قد طلقتي ثلاثا”.
“وليس شئ إثباته حقيقة نفيه إلا الجهل”، فهل يقبل الإنسان بالجهل وسوأته؟ وهل هناك من يقبل بالجهل مَن يعرف أن مصيره الضلال والنار؟
لذلك فالجهل سيّد الأخلاق الذميمة، والإنسان السوي لا يرتضي تلك الاخلاق السيئة التي مصدرها الجهل، ولهذا فهو يسعى الى نفي الجهل.
البعض يرضى بواقعه الجاهل ولا يسعى الى تغييره، لذلك الذي يعرف الجهل يجتهد الى نفي الجهل عن نفسه.
مرض الحرص
تجد الكثير حريص على المال والجنس..، فالإنسان الذي يحرص على الدنيا يفني طاقته ونفسه، البعض يبني بيته ويتابع كل صغيرة وكبيرة في عملية البناء، وعند الإنتهاء يأتيه ملك الموت ويقبض روحه، فبعد أن انهك صحته وأمواله يترك كل ذلك في لحظة.
الذين اغتصبوا الخلافة كانوا حريصين على السلطة وعلى تداولها، لكنهم ذهبوا وتركوا الخلافة! وهكذا من يحكم العالَم اليوم بالظلم والجور، فهم حريصون على الحكم والسلطة.
” فالكل منهم كواحد، والواحد منهم كالكل”، فهذه الثلاثية مترابطة بعضها مع البعض الآخر، فإذا كان هناك جهل فهناك دنيا وحرص، وهكذا إذا عكسنا القضية مع مفردتي “الحرص والدنيا”.
فوجود واحد ـ الجهل مثلا ـ من هذه الثلاثة يكون مجلبة للأثنين الأخريين ـ الحرص والدنيا ـ وهذا يعني حجب الإنسان عن الحقائق، فيجهل المرء وما يراد به.
ضرورة المعرفة لرفع الجهل
ولذا إذا اردنا أن نعالج انفسنا من هذه الخصال لابد أن نتخلص منها جميعا، البعض قد يسعى الى إزالة الجهل من نفسه، لكنه في نفس الوقت متشبث بالدنيا، وهذا ما لا يحدث أي أثر تغييري داخل النفس.
فرفع واحدة من هذه الخصال لا يكفي واحده لمعالجة النفس، بل يجب السعي الى نفيها جميعا، إذاً فنحن بحاجة الى معرفة، وعلم، والى رفض الدنيا، وعدم قبول الحرص، حتى نرتقي بأنفسنا.
كما أن معرفة النفس وتقلباتها ضرورة، فإن معرفة ما يحيط بنا ضرورة، والأمور التي تحيط بنا هي الدنيا وهي التي تضر، والجهل والحرص والذي هما جزءان في الإنسان، وعلى المرء أن يعرف أن هذه الأمور متأصلة في نفسه وعليه السعي الى التخلص منها، وعدم التخلص منها يعني أنه جاهل بنفسه.
يقول الإمام علي، عليه السلام: “ميدانكم الاول انفسكم ان قدرتم عليها كنتم على غيرها اقدر” وان عجزتم عنها كنتم عن غيرها اعجز”، فعلى الإنسان ان لا يتهم العوامل المحيطة من قبيل: (ابائي لم يقوموا بتربيتي)، (النظام السياسي في بلدي نظام ظالم وطاغي) و( بيئي فاسدة وعندي اصدقاء سوء) وما اشبه من العوامل الأخرى، فكل ذلك تبريرات والمرء بإمكانه أن يتخلص من تلك العوامل الفاسدة والسيئة.
فلماذا يصبح الإنسان ضعيفا :”اتحسب أنك جرم وفيك انطوى العالم الاكبر”، ويقول عليه السلام: “دواؤك منك فلا تبصر ودواؤك فيك ولا تشعر”.
الخارج لن يتغير؛ فهل مات الشيطان؟ أنه انه لا يزال موجودا؟ فشياطين الأنس والجن موجودين، وهناك الحق والباطل، وما اشبه، ولذلك إذا تغير الإنسان تغيّر الخارج من حوله.
ولذا يجب أن نبدأ من الذات لأصلاحها وإلا فإن مصيرها الى النار، فإذا كان لدينا حرص على المال لا العلم، وحرص على الدنيا لا على الآخرة، فماذا يكون مصيرنا؟