انقضت العشر الأوائل من شهر محرم الحرام، بعد أن كانت مليئة ومزحمة بالمجالس الحسينية في كل حدب وصوب، فأين وليّت وجهك فثمة مجلس ينعى الإمام الحسين، عليه السلام، ويذكّر ما جرى عليه من ويلات ومصاب.
ومما لا شك فيه أن هذا الشهر، هو شهر أحزان آل محمد عليهم السلام، يقول الإمام الرضا، عليه السلام: “كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السلام”.
فالبكاء والحزن هو جزء من الأعمال الظاهرية لهذا الشهر الحرام، لكن هل نبكي لمجرد البكاء؟
أو هل نبكي دون أن تؤدي تلك الدموع الغاية التي ذُرفتْ من أجلها؟
أم أن البكاء وسيلة لغايات أخرى؟
البكاء بحد ذاته مطلوب على مصاب أبي عبد الله، عليه السلام، روي عن آل الرسول عليهم السلام أنهم قالوا: “من بكى وأبكى فينا مائة فله الجنة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحدا فله الجنة، ومن تباكى فله الجنة”. فهذا بكاء مطلوب لذاته.
لكن هناك بكاء لغيره، أو بمعنى أن سبب لتحقق أمر آخر، ألا وهو الاعتبار وأخذ الدروس من سيرة الإمام الحسين، عليه السلام، فنحن نبكي الحسين، لنتخلق بأخلاقه، وآدابه.
فنحن قد أخذنا العَبرة ـ والتي تمثلت بمجالس العزاء واللطم والزنجيل وما اشبه ـ وبقي أن نأخذ العِبرة، التي تمثل المنهج السلوكي والعملي للإمام الحسين، عليه السلام، وعلى هذا المنهج نقيّم كل حركة نخطوها، يقول الإمام علي، عليه السلام: “من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة”.
الحياة ملئية بالفتن والابتلاءات، ولأن حياة الإنسان قصيرة فليس بوسعه أن يدخل في تجارب كثيرة حتى يثبت صواب هذا الفكرة، وخطأ الأخرى.
الحياة ملئية بالفتن والابتلاءات، ولأن حياة الإنسان قصيرة فليس بوسعه أن يدخل في تجارب كثيرة حتى يثبت صواب هذا الفكرة، وخطأ الأخرى
ومنهج أهل البيت، عليهم السلام، وخصوصا نهضة الإمام الحسين، عليه السلام، فيها الكثير من العِبر والدروس التي إن أخذنا بها، فلحنا ونجينا، وإن اهملناها اصابنا الهلاك والبوار.
ماذا يريد الإمام الحسين منّا؟
يقول الله ـ تعالى ـ: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ولأن القرآن الكريم، كان محور حركة الإمام الحسين، عليه السلام، يجب أن يكون هو المقياس لمعرفة ما يحبه ويكره الله، وبالتالي فإن الإمام الحسين، عليه السلام، جعل ذلك ـ الحب ـ ميزانا ومعيارا في حركته ونهضة قبل يوم عاشوراء.
إذا عدنا الى القرآن الكريم وتتبعنا الآيات الكريمة التي جاءت فيها جملة {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ}، يمكن أن نجعل من هذه الآيات ـ التي تمثل قيم وخصال أخلاقية ـ ميزانا نقيّم أنفسنا لنضعها موضعها الصحيح، وهذه الخصال الأخلاقية جسّدها الإمام الحسين، عليه السلام سلوكا وعملا؛ نذكر بعضا منها:
أولا: الإحسان: ـ يقول الله ـ تعالى ـ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. فمن الصفات الإيمانية التي يجب أن نتمتع بها هي صفة الإحسان، وهذا الصفة إذا تتبعناها في القرآن الكريم نجدها من أكثر الصفات التي تميزها بها أنبياء الله، وأهل البيت، عليهم الصلاة والسلام.
وللإحسان أبواب ومصاديق كثيرة، عن عمر بن يزيد: سمعت أبا عبد الله، عليه السلام يقول: “إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة؛ فقلت له: وما الإحسان؟
قال: فقال: إذا صليت فأحسن ركوعك وسجودك، وإذا صمت فتوق كل ما فيه فساد صومك وكل عمل تعمله لله فليكن نقيا من الدنس”. ومن الإحسان مساعدة الآخرين، وكف الأذى عنهم، وما اشبه من أعمال البر.
ثانيا: التوبة والطهارة: يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، مَن منا لم يذنب؟ فنحن بشر ومن طبيعتنا أننا لسنا بمعصومين، ولان الذنب معصية لله ـ سبحانه وتعالى ـ فقد فتح الله بإزائه باباً آخر للعروج إليه ـ تعالى ـ ألا وهو باب التوبة، يقول الله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له”.
ويقول الإمام علي عليه السلام: “توبوا إلى الله عز وجل وادخلوا في محبته، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين والمؤمن تواب”.
ثالثا: الوفاء بالعهد: يقول الله ـ تعالى ـ: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، تضمنت الآية الكريمة خصلتين مهمتين يجب توافرهما في الإنسان المؤمن وهما: الوفاء بالعهد، والتقوى.
و(يبدو) أن التقوى هي الطريق الممهد لكل فضيلة ومنها الوفاء بالعهد، يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “من رُزق تُقى فقد رزق خير الدنيا والآخرة”. وكانت من أجلى صفات أصحاب الإمام الحسين، عليه السلام، هو الوفاء بالعهد، والتقوى؛ وكانوا متمسكين بهما الى آخر لحظة من حياتهم.
رابعاً: ميزة الصبر: يقول الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، من الخصال المهمة التي على الإنسان المؤمن السعي الى تحصيلها في نفسه هو الصبر، لأن بالصبر نتغلب على صعوبات الحياة وتقلاباتها.
“والصبر تجلٍ لروح الإيمان عند النوائب، وفي لحظات عصف الشهوات، وعند تحمل الصعاب.
لأن النفس التي تنساب مع النعم أو النقم لا تملك استقلالية في الرأي، ولا وضوحا في الرؤية، لأنها تميل مع رياح الظروف أنى مالت، فإذا عصفت بها الشهوات طغت وتجبرت، واستأثرت بالنعم، وتعالت على الآخرين، وإذا توالت عليها المصائب انهارت وأظلمت الدنيا عندها وجزعت، لذلك تتجلى الآيات الإلهية للصبار الشكور أكثر من غيره.
والواقع أن الصبار هو الحر حقا، الذي ينظر إلى الحقائق نظرة موضوعية ومجردة عن المصالح. جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق عليه السلام:
“إِنَّ الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا وإِنْ تَدَاكَّتْ عَلَيْهِ المَصَائِبُ لَمْ تَكْسِرْهُ وإِنْ أُسِرَ وقُهِرَ واسْتُبْدِلَ بِاليُسْرِ عُسْراً كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ الأَمِينُ صلى الله عله واله لَمْ يَضْرُرْ حُرِّيَّتَهُ أَنِ اسْتُعْبِدَ وقُهِرَ وأُسِرَ ولَمْ تَضْرُرْهُ ظُلْمَةُ
الجُبِّ ووَحْشَتُهُ ومَا نَالَهُ أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ الجَبَّارَ العَاتِيَ لَهُ عَبْداً بَعْدَ إِذْ كَانَ لَهُ مَالِكاً فَأَرْسَلَهُ ورَحِمَ بِهِ أُمَّةً وكَذَلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً فَاصْبِرُوا ووَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُوجَرُوا”.
حقيقة الصبر الاستفادة من عامل الوقت، واستشراف المستقبل، والتخطيط له، وتوظيف الطاقات لأجله، وبالنسبة إلى المؤمن يعتبر اليوم الآخر الحياة الحقيقية
هكذا الصبر عنوان الإنسان الحر، ومفتاح الفرج بعد الشدة، وهو- كذلك- صلاح العمل. أوليس الزمان جزءا من فطرة الخليقة؟! فمن لا صبر له لا يمكنه أن يوظف عامل الزمن لمصلحته، فيكون سببا لفساد أعماله. أرأيت الفلاح الذي لا ينتظر الموسم المناسب لزراعته، والتاجر الذي لا يصبر حتى تزدهر السوق لبيع سلعته، والثائر الذي يستعجل تفجير ثورته. أوليس يفشل هؤلاء، بينما ينجح الصابرون؟!
وحقيقة الصبر الاستفادة من عامل الوقت، واستشراف المستقبل، والتخطيط له، وتوظيف الطاقات لأجله، وبالنسبة إلى المؤمن يعتبر اليوم الآخر الحياة الحقيقية، ولذلك فهو يعمل له أبدا، ولكنه يقتطع من كل مساعيه جزءاً مناسبا للدنيا، حسب وصية ربه له حيث يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا}. ولذلك فإن المؤمن يستسيغ الصبر في كل الظروف، وفي مواجهة مختلف الاحتمالات، وقد قسم الشرع الصبر على ثلاثة:
– الصبر عند النوائب.
– الصبر على الطاعات.
– الصبر على المعاصي”. (المرجع المدرسي؛ من هدى القرآن، ج7، ص: 121).
وكثيرة هي الآيات التي تبين ما يحب الله من الإنسان المؤمن، وإذا عرضنا هذه الصفات الإيمانية وغيرها يمكننا أن نقيّم أنفسنا؛ ثم نضعها الموضوع الذي يريده الله، ويريده الإمام الحسين، عليه السلام.
في المقابل؛ إن أضداد هذه الصفات والخصال هو ما لا يحبه الله من الإنسان، فالبخيل، والعجول، والمذنب..، وكذا الإمام الحسين، عليه السلام انتقى أصحابه وفق تلك المعايير القرآنية، التي يجب أن نسعى لتحصيلها في أنفسنا، وإيجادها في المجتمع.
إنّ نصرة الإمام الحسين، عليه السلام، تتمثل في الإلتزام بمنهجه القرآني النبوي، والذي يقوم على طاعة الله ـ عز وجل ـ في أي مجال من مجالات الحياة، فالمرأة من موقعها تنصر الإمام بالتزامها بحجابها وعفتها، والشاب ينصره بالأخلاق الحسنة والعفة والصبر، وهكذا في بقية فئات المجتمع المختلفة، ومن الملاحظ أن ملحمة عاشوراء وضعتْ إنموذجا لكل فئة مجتمعية، فهناك الاطفال، والشباب، والشيوخ الكبار، وهناك النساء؛ فعاشوراء مدرسة متكاملة الأوجه والأطر.