أسوة حسنة

ولكم في صبرها أُسوة

للصبر تعريفات عدّة في اللغة والاصطلاح منها أنه: “ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله”، كما جاء في معجم التعريفات للسيد علي الجرجاني.

ولا نتمكن بأي شكل من الأشكال معرفة المعنى العميق لما يُعد من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألا وهو الصبر.

هو ليس بـ”مادة” كي يدركه العالَم الحسّي، فلو اردنا معرفة حقيقة ما، علينا التوجه الى مصاديقه عندها نتمكن من ادراك صورة ربما تمكننا من الوقوف على سبب جعله بمنزلة الرأس من الجسد، وينبغي لهذا المصداق خاصية الرمزية، وعلى درجة عالية من التأثير ليترك آثاره على الأجيال.

لنطلّ على التأريخ ونقف على أحد أعظم الوقائع تأثيراً في النفوس في تاريخ البشرية، ألا وهي واقعة كربلاء، لنجد الصبر، مصداقاً وتجسيداً في شخصية امرأة صارت مثلاً للأجيال، ألا وهي العقيلة زينب؛ الصديقة الصغرى والسيدة الثانية بعد أمها، الزهراء، سلام الله عليها.

نتحدث دائماً عن العقيلة زينب دائماً في أوساطنا الاجتماعية، و ربما نقتدي بهذه السيدة العظيمة، ولكن ليس بصبرها، وكأننا نقول: “مولاتنا نحن نقتدي بكم في كل شيء اذا اردتم، عدا الصبر فانا نستثقله ونستصعبه”!

إن الكلام ليعجز، والأقلام تتعثر، وتصبح جوفاء بلا خطوط لرسم حروف تفسير صبرها الذي نازل الجبال الشامخات، و أين هي من قلب هذه السيدة العظيمة، فهو (الجبل) يُقدّ منه، وقلبها الكبير لا يُقد منه، فهي التي استقبلت الدنيا منذ اليوم الاول بدموع النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله، عندما أخبره جبرائيل، عليه السلام، بما سيحدث لها من الفجائع في ارض كربلاء، كما وانها احتضنت اخويها الحسنين، وأصبحت لهما اُماً بعد فقدهما السيدة فاطمة، عليها السلام، ولم تكن تبلغ من العمر حينها إلا قرابة خمسة اعوام.

وعلى الصعيد الاجتماعي والسياسي شهدت العقيلة زينب، ظهور ترسبات الجاهلية من حميات وعصبيات وانحرافات في الأمة، تجلّت بشكل مريع في تآمر الأمويين على الإسلام، بدءاً من تدبير مسرحية قتل عثمان وشن الحروب على أمير المؤمنين، ثم اغتيال الامام الحسن، عليهما السلام، من اجل إبعاد أهل البيت، عليهم السلام، عن قيادة الأمة سياسياً.

بيد أن هذا الواقع المرير الذي مهّد لظهور تلكم الفتن، لم يكن يمنعها من الدعوة والتبليغ لترسيخ الدين الاسلامي الأصيل للنساء، ونقل انه لمّا أتى الامام علي، عليه السلام، بعائلته من مدينة الى الكوفة بعد انتخابه بإجماع الأمة؛ قائداً سياسياً، تولت العقيلة زينب ولمدّة أربع سنوات مهمة إلقاء المحاضرات الدينية والثقافية على النساء.

لقد جرّبت العقيلة زينب، سلام الله عليها، فصولاً هامة من الصبر والتحدي طيلة وجودها في الكوفة، حيث شهدت استشهاد أبيها أمير المؤمنين، وقبلها الحروب الضروس التي خاضها، وبعد عودة الأسرة النبوية الى مدينة رسول الله، شهدت هناك استشهاد أخيها الحسن المجتبى، بتلك الصورة الأليمة، وفي كربلاء كانت الذروة والأوج في الصبر الزينبي، فقد كانت السند لإخوتها والمحفزة للجهاد لبنيها والمفزع والمنقذ لإمام زمانها والملاذ للنساء والأطفال، بعد الهجوم المسعور للهمج الرعاع من جيش عمر بن سعد، بعد حرق الخيام.

ينقل حميد بن مسلم: “رأيت زينب قد دخلت في وسط النار، وخرجت وهي تسحب انسانا من وسط لهيب النار، فظننت انها تسحب ميتاً قد احترق، فاقتربت لأنظر إليه، فاذا هو زين العابدين علي بن الحسين، عليه السلام”. لقد عرّضت نفسها للخطر في سبيل إتمام هذه العملية الفدائية، انها “مغامِرة بالحياة من اجل الدين”، كما جاء في كتاب “زينب من المهد الى اللحد”، للخطيب المرحوم آية الله السيد محمد كاظم القزويني.

وعندما أُخذت مسبية الى الكوفة ثم الى الشام واجهت رموز بني أمية بتلك الكلمات اللاهبة والصاعقة، فوقفت شامخة تخطب وتُسمع التاريخ والأجيال، مُفنّدة ادعاءات الباحثين عن السلطة والحكم بأنهم منتصرون، وبيّنت العكس تماماً؛ فهم المهزومون والخاسرون، فحاججتهم وألقمتهم الحصى حين قالت، في سياق ردّها على الطاغية ابن زياد: “…والله ما رأيت إلا جميلا”، وهكذا فعلت بيزيد في قصره بالشام، وهو يسعى جاهداً لإيهام الناس والتاريخ بأنه المنتصر، وخطبت تلك الخطبة العصماء التي جمعت البلاغة وقوة الحجة وحدّة البيان، وكشفت له منذ ذلك اليوم بأن “فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة الله على الظالمين”.

لا يمكن لكلماتنا وسطورنا ان تفي بحق سليلة النبوة وعقيلة الهاشمين علينا، فما علينا إلا المزيد من التقرّب من هذا الشعاع الرباني لنتعلم أهم صفات النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة

هذه صورة موجزة عن العقيلة زينب، ونحن نتحدث عنها دائماً في أوساطنا الاجتماعية، و ربما نقتدي بهذه السيدة العظيمة، ولكن ليس بصبرها، وكأننا نقول :”مولاتنا نحن نقتدي بكم في كل شيء اذا اردتم عدا الصبر فانا نستثقله ونستصعبه”! نعم؛ ان الصبر ليس بالضرورة ان يكون في ظروف كالتي مرت به السيدة زينب، فهي ظروف استثنائية خاصة، إنما تريد منّا العقيلة الطاهرة، وايضاً أهل البيت، عليهم السلام، بأن نُحيي هذه الفضيلة الأخلاقية في حياتنا، لأن مما يؤسف له -حقاً- ان الأسباب التي تؤدي الى اختلاف الزوجين وقطيعة الرحم والطلاق المنتشر بشكل رهيب في بلداننا، ولاسيما العراق، يعود في أحد اسبابه الى فقدان الصبر وسرعة الانفعال المؤدية الى حدوث ما لا يحمد عقباه، فلو كنا نملك رصيدا كافيا من الايمان الذي يدعونا للاغتراف من بحر صبرهم لارتقينا تصاعديا، يقول سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي:

“زينب، سلام الله عليها، علمت الأجيال، النساء والرجال على حدٍ سواء، كم حدود الصبر واسعة، وكم احتمال الانسان للمصائب كبير، وكيف أن شخصاً واحداً يمكنه اذا توكل على الله أن يزيح من أمامه جبال المصائب والهموم ويحقق تطلعاته”.

وختاما أقول:

لا يمكن لكلماتنا وسطورنا ان تفي بحق سليلة النبوة وعقيلة الهاشمين علينا، فما علينا إلا المزيد من التقرّب من هذا الشعاع الرباني لنتعلم أهم صفات النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.

  • المقال منشور في مجلة الهدى بنسخته الورقية في العدد المزدوج (301-302)

عن المؤلف

آمنة الطائي

اترك تعليقا