يقول الله ـ تعالى ـ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}.
هناك حقائق تمهيدية للتدبر في هذه الآيات المباركة:
النفاق في القلب وقلما يستطيع الانسان أن يقضي على هذا المرض بصورة نهائية، لكن يمكن أن يخففه، وفي نفس الوقت يتحول النفاق مع الزمن الى قوة اجتماعية تعارض مسيّرة الحركة الرسالية في الأمة، كما كان في عهد النبي، صلى الله عليه وآله.
الريا، والكِبْر، والعُجب، وغيرها من شُعب النفاق، وهذه موجودة عند الكثير من الناس، بما فيهم المؤمنين، إنما الحديث في هذه الآية عند تلك الفئة المنظمة التي طرحت نفسها كبديل عن القيادة الرسالية، وقد نجحت هذه الفئة في فترة من الفترات من تاريخنا، كبني الأمية، وبني العباس، وقبلهم عبد الله بن أبي.
بما أن المنافق يعتمد على الازدواجية، اي على السرية المطلقة، فإن اكتشاف المنافقين قضية مهمّة، يقول ـ تعالى ـ {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}، لأن المنافق يتسلّل واشبه ما يكون بالسرطان الذي يتغلل داخل الجسم.
أساس الشعائر تعبير عن القلب التقي والصافي، ومن الخطأ أن يقوم البعض بالشعائر الظاهرية لتغطية سلبياته؛ من قبيل: الريا، والكذب، والخيانة، وغيرها من صفات المنافقين
والمنافق يتغذى ما من أموال الأمة الاسلامية، فهو في الفتوحات موجود، وفي الأمور الظاهرية يكون موجودا، لكن عند اللحظة المناسبة يتبخر وكأنه لم يكن!
في هذه الآيات المباركة يضع ربنا المقايسس لاكتشاف الحالة النفاقية في المجتمع، حتى عند القيادة الاسلامية بعد ظهور الإسلام، أو في هذه المرحلة، ويمكن اكتشاف ذلك بالتدبر العميق، وبالإخلاص والتجرد، يمكن اكتشاف المنافقين وبالتالي تفتيت تجمعهم قبل أن يستفحل أمرهم.
بهذه الطريقة نكشتف المنافق
من ميزة القرآن الكريم أنه يبين أظهر المصاديق، ثم يوكل ـ للمؤمن ـ اكشتاف المصاديق الأخرى، وفي هذه الآيات من سورة البقرة بيان لأظهر مصاديق النفاق، أما المنافقين الآخرين ـ الأقل خطورة ـ يمكن اكتشافهم عبر هذه المقاييس في هذه الآيات.
و كبصيرة مهمة جدّاً في فهم الآيات: أن القرآن الكريم ـ عادةً ـ يضرب الامثال في المصاديق الأكثر وضوحا، كقوم عاد، ونوح، وثمود، فهذه مصاديق ظاهرة، وهناك ـ غيرها ـ خفيّة، يمكن اكتشافها إذا عُرفت المصاديق الظاهرة.
قد يكون محور حياة الإنسان الحق أنّى وجده تحمور حوله، ولا فرق عنده أن يكون الحق عند الكبار او الصغار، عند الأقربين، أو الأبعدين، أو ما اشبه، وقد تكون محور حياته نفسه، وحين تكون النفس هي المحور يقيس كل شيء ما هو أقرب الى النفس.
ـ فمثلا ـ الأحكام الشرعية والمؤمن يعمل بها جميعا ولا يفرق بين حكم وآخر، ولكن المنافق ينظر؛ هل فيه منفعة أم مضرّة، ـ مثلا ـ الزكاة حكم إلهي، فالمؤمن يأخذ الزكاة ويعطيها، بخلاف المنافق الذي يأخذ ولا يعطي. يقول الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}. فهو يتبع هواه، يوم مع هذا، ويوم مع آخر!
ويبيّن القرآن الكريم في بعض الآيات أن بعض الناس يدعون الى حمل السلاح والقتال، عندما يكون ذلك في مصلحتهم، يقول الله ـ تعالى ـ: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
كان كفار قريش كانوا لا يصلون، ولا يعطوا الزكاة، ويقومون بسحق المستضعفين، ويأكلون أموال الناس بالربا والظلم..، لكنهم جعلوا سقاية الحاج، وعمارة البيت الحرام محوراً، يقول ـ تعالى ـ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وأغلب الطغاة والظلمة يعملون بعض الاعمال الظاهرية القشريّة، من أجل أن يغطوا سلبياتهم وسواءتهم.
والمنافق قد لا يكون مثل اولئك الطغاة؛ فقد يخشع في صلاته..، لكنه في نفس الوقت يكذب، ويـأكل اموال الناس بالباطل، ويرائي في عمله، ودليل المنافق هو انتقاء نوعيات الأعمال والأحكام، ويغطي سوءاته ببعض الاعمال الظاهريّة التي تكون غطاء لجرائمه، وتلك الأعمال لا تتنافى مع مصالحه.
ويبدو أن أحد معاني {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}؛ هو أن يقوم الإنسان بعمل في ظاهره أنه يقربه من الله، لكنه في الحقيقة يريد أن يخدع الله! وواقعا هو يخدع نفسه، فقد يقتل شعبا كاملا، لكن دموعه تجري لشخص في السجن!
المنافقون وحرف مسيرة الشعائر
وكعلامة أساسية من علامات النفاق؛ هي افراغ الدين محتواه والتسمك بالقشور، ويتمثل ذلك المحتوى في خدمة الإنسان، وعبوديّة الرب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “سيأتي زمان على أمتي لا يبقى من القرآن إلا رسمه، ولا من الاسلام إلا اسمه، يسمون به وهم أبعد الناس منه، مساجدهم عامرة، وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود.فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود”.
لذلك يقول الله ـ تعالى ـ عن الشعائر، التي هي محل استهداف المنافقين لإفراغها من محتواها: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، والشعيرة لابد أن تنفع القلب. فأحد الأشخاص أخذ مليار دينار من إحدى السفارات الأجنبية، لتخريب المجتمع العراقي، وفي نفس الوقت ذات شخص ذهب مشيا الى كربلاء مرتين!
فأساس الشعائر تعبير عن القلب التقي والصافي، ومن الخطأ أن يقوم البعض بالشعائر الظاهرية لتغطية سلبياته؛ من قبيل: الريا، والكذب، والخيانة، وغيرها من صفات المنافقين.
جاء في بحار الأنوار أن مناظرة جرت بين الإمام الصادق عليه السلام وبين جاهل يدّعي العلم في صدقة يحدّثنا عنها الإمام الصادق نفسه فيقول: “إِن من اتّبع هواه واُعجب برأيه كان كرجل سمعتُ غثاء الناس تعظّمه وتصفه، فأحببت لقاءه حيث لا يعرفني، فرأيته قد أحدق به كثير من غثاء العامّة، فما زال يراوغهم حتّى فارقهم ولم يقر فتبعته.
فلم يلبث أن مرَّ بخبّاز فتغفّله وأخذ من دكّانه رغيفين مسارقة، فتعجّبت منه، ثمّ قلت في نفسي: لعله معاملة، ثمّ أقول: وما حاجته إِذن إلى المسارقة، ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرَّ بصاحب رمّان، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمّانتين مسارقة، فتعجّبت منه ثم قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ أقول: وما حاجته إِذن إِلى المسارقة، ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرَّ بمريض فوضع الرغيفين والرمّانتين بين يديه .
كعلامة أساسية من علامات النفاق؛ هي افراغ الدين محتواه والتسمك بالقشور، ويتمثل ذلك المحتوى في خدمة الإنسان، وعبوديّة الرب
ثمّ سألته عن فعله فقال: لعلّك جعفر بن محمّد، قلت: بلى، فقال لي: وما ينفعك شرف أصلك مع جهلك؟
فقلت: وما الذي جهلت منه؟
قال: قول اللّه ـ عزّ وجل ـ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}، وإِني لمّا سرقت الرغيفين كانت سيّئتين، ولمّا سرقت الرّمانتين كانت سيّئتين، فهذه أربع سيّئات فلما تصدَّقت بكلّ واحدة منها كان لي أربعين حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيّئات وبقي لي ستّ وثلاثون حسنة.
فقلت: ثكلتك أمّك أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت اللّه ـ تعالى ـ يقول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}، إِنك لمّا سرقت رغيفين كانت سيّئتين، ولمّا سرقت رمّانتين كانت أيضاً سيّئتين، ولمّا دفعتها إلى غير صاحبها بغير أمر صاحبها كنت إِنما أضفت أربع سيّئات إلى أربع سيّئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيّئات، فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته .
قال الصادق، عليه السلام: بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يَضلّون ويُضلّون”.
إنّ محتوى الدين يُعرف بالقرآن الكريم، وكلام النبي وأهل بيته الطاهرين، عليهم السلام، واحكام الشرع التي يبيّنها الفقهاء، فالمؤمنون أذكياء لا ينخدعون، فالشكليات الظاهرية ليست كل الحقيّقة، ولذا إذا عمل أحدهم عملا فإن علينا أن ننظر الى بقية أعماله، ويجب دراسة القضايا من جميع جوانبها حتى نكتشف المنافق ليحذر المجتمع من خطره وشرّه.
- مقتبس من محاضرة للسيد المرجع المدرسي