في عملية الإصلاح والتغيير الإجتماعي تلعب النُخبة دوراً مهماً وأساسياً في صناعة التغيير وإحداث التحولات اللازمة ناحية تحقيق الإصلاح في المجتمع، وتقوم عليها دون غيرها من مكونات المجتمع، مسؤولية مجابهة الواقع المتّسم بالفساد والاستبداد وقيادة جمهور الناس في المجتمع نحو تحقيق أهداف الإصلاح السياسي والاجتماعي.
إن النُخب الاجتماعية وبما تمتلكه من وعي وبصيرة ودراية، وما تتمتع به من مكانة في المجتمعات، تكون مؤهلة أكثر من غيرها من فئات ومكونات المجتمع للتصدي لمعالجة مواطن الخلل والضعف فيه وتطويرها والارتقاء به حيث تزدهر العدالة ويتحقق الرفاه للجميع.
في المجتمعات التي لا تقوم النُخب الاجتماعية بدورها في التصدي لقضايا الفساد، ولا تقوم بدورها في مكافحة الأمراض التي قد يعاني منها المجتمع؛ كالفقر والمرض والبطالة، فإن هذا المجتمع سيظل يعاني طويلاً وسيدفع جميع أبنائه فاتورة إهمال النُخب وعدم قيامها بما يمليه عليه دورها ومهمتها الأساسية كنخب في هذا المجتمع أو ذاك من مساعدة المجتمع في النهوض عبر التخلص من كل عوامل الفساد والانحطاط فيه.
في المجتمعات التي لا تقوم النُخب الاجتماعية بدورها في التصدي لقضايا الفساد، ولا تقوم بدورها في مكافحة الأمراض التي قد يعاني منها المجتمع؛ كالفقر والمرض والبطالة، فإن هذا المجتمع سيظل يعاني طويلاً وسيدفع جميع أبنائه فاتورة إهمال النُخب
بالمقابل وجدنا كيف أن المجتمعات التي تتحمل فيها النُخب الاجتماعية مسؤولياتها في عملية الإصلاح والتصدي لعوامل ومنابع الانحراف والفساد في المجتمع، كيف أنها استطاعت تحقيق الكثير في طريق الإصلاح السياسي والاجتماعي في مجتمعاتهم.
التأثير لمن ولد من رحم المجتمع
وليس خافياً أن أهمية دور النُخب في أي من المجتمعات الإنسانية يكمن في قدرتها على التأثير في المجتمع والسلطة من خلال:
1- قدرتها على التأثير في الرأي العام وتحريكه في الاتجاهات التي ترى هذه النُخبة أو تلك، أهمية الحركة باتجاه تحقيق أهداف الإصلاح والتغيير الاجتماعي أو السياسي.
٢- قدرتها على صناعة الرأي العام وإيجاد اتجاهات جديدة في حركة الوعي في المجتمع.
وكون النُخب الاجتماعية يشكّل جزءاً أصيلاً من تكوين المجتمع، فإن باستطاعتهم التعبير عن آلامه وطموحاته وتطلعاته بشكل فعّال ومؤثر. ولهذا لن تجد في سبيل النهوض بالمجتمع وإصلاحه، بأفضل من قيام النُخب بدورها في هذا الاتجاه وتحمل مسؤولياتها في تقويم المجتمع وإصلاح مساراته الخاطئة.
إن أي تقصير في تحمل النُخب الاجتماعية لمسؤولياتها في التصدي للفساد وعوامل الانحراف والانحطاط في المجتمع بشتى صنوفه وأنواعه، يؤدي إلى استشراء الفساد حتى يصل إلى مستويات تصبح فيه خطراً يتهدد وجود المجتمع بأكمله. ثم تصبح الحركة باتجاه الإصلاح صعبة وقاسية ومريرة قد تتطلب تضحيات جسيمة كان يمكن تداركها لو قام النُخب بدورهم وتحملوا مسؤولياتهم كما يجب أو كما ينبغي في التصدي والقيام بما يتطلبه واقع الحال من مسؤولية ومهام.
وتزداد مسؤولية النُخب في المجتمعات، عندما تلجأ السلطات القائمة إلى القمع والقبضة الحديدية في مواجهة المحاولات الإصلاحية، خاصة السياسية منها، وتمنع بالحديد والنار، أية محاولة للمطالبة بالتغيير. وتصبح مهمة النُخب في الإصلاح والتغيير عندئذ تفرضها أكثر من ضرورة ولكنها في ذات الوقت مهمة تتطلب تضحيات كبيرة وقاسية.
إن حركة النُخب في الظروف الطبيعية وللأغراض المدنية والاجتماعية الصرفة، قد لا تتطلب سوى التقدم للأمام، خاصة إذا كانت الإصلاحات المطلوبة لا تخدش السلطة ورجالاتها في الأنظمة المستبدة والديكتاتورية، ولا تشكل أية خطورة على الهيكلية العامة للنظام.
لقد دفع الآلاف من النُخب ثمناً باهظاً من كرامتهم وحتى حياتهم في بلداننا التي يتحكم في أمور معظمها أنظمة مستبدة شمولية تهاجم بعنف أي دعوة يشم منها رائحة المطالبة بالإصلاح والتغيير في المجتمع بما يضع بعض المتنفذين فيها في دائرة الاتهام مباشرة، إما بالتقصير في حماية وصيانة المكتسبات في المجتمع أو بجريمة من جرائم الفساد ذاتها.
ويتحمل النُخب دائماً نتائج مواقفهم وحتى سلبيتهم تجاه ما يجري في المجتمع، بل تزداد قسوة الأوضاع ضدهم كلما كانت مواقفهم سلبية تجاه أوضاع المجتمع. ولذلك ليس هناك خيار آخر أمام النُخب في أي مجتمع من مجتمعاتنا الإٍسلامية إلا القيام بواجبها الأخلاقي ووظيفتها الشرعية في حماية المجتمع الذي تنتمي إليه والعمل على الارتقاء بمدنيته والنهوض به إلى حيث مراتب تحقق العدالة والحرية والرفاهية.
* لا تكفي القناعة بالواقع السيئ للمجتمع ولا القناعة المجرّدة بضرورة أن يتغير هذا الواقع للأفضل، فالأماني الطيبة وحدها وحسن النوايا في معالجة قضايا المجتمع الملحّة
متطلبات التصدّي
إن أول متطلبات التصدي كنخبة:
أولاً: تصدي الإيمان بالإصلاح والتغيير
بأن تكون النخبة على قناعة تامة بتحمّل المسؤولية تجاه المجتمع وما يجري فيه، فعندما يعاني المجتمع من نتائج مشكلات الاستبداد والفساد وما تنتجه من بؤس ومعاناة ربما تكون قاسية وشديدة على المجتمع، فإنه لابد من القناعة والإيمان أولاً وقبل كل شيء بضرورة الإصلاح والتغيير.
ثانياً: التصدي وتحمل المسؤولية
إذ لا تكفي القناعة بالواقع السيئ للمجتمع ولا القناعة المجرّدة بضرورة أن يتغير هذا الواقع للأفضل، فالأماني الطيبة وحدها وحسن النوايا في معالجة قضايا المجتمع الملحّة، لا يمكن أن تضع المجتمع على طريق الإصلاح وتعديل الأوضاع المعكوسة التي أدت إلى انحطاطه وتخلفه.
ثالثاً: الاستعداد للتضحية
إن إصلاح المجتمعات من المهام الصعبة التي يتحمل القائمون عليها كافة النتائج المترتبة، وما لم تكن النُخبة مستعدة لتحمل نتائج حركتها ناحية الإصلاح في المجتمع فإن معاناته ومعاناة المجتمع ستطول إلى أن يتحصّل المجتمع على نخبة مُدركة وواعية لمسؤولياتها التاريخية في إصلاح الأوضاع البائسة وتحمل ما تترتب على ذلك من نتائج تتطلب استعداداً غير عادي للتضحية بكافة مراتبها ومستوياتها، وبدءاً بالمال والجهد والوقت، ومروراً بتحمل تبعات ونتائج قرارات السلطة في مجابهة النُخب التي تدعو إلى التغيير والإصلاح؛ بدءاً من التسقيط وتشويه الصورة في عيون المجتمع، ومروراً بالسجن والتعذيب، وانتهاءً بالاستشهاد تحت التعذيب او في ساحات الإعدام.
النُخب في المجتمع وأهم التحدّيات
تعترض مسيرة النُخب في المجتمع العديد من التحدّيات، تتمثل بعضها في صورة عقبات تحول دون قيام هذه النُخب بأدوارها المطلوبة في الإصلاح الإجتماعي والسياسي في المجتمع، ومن ثم عجزها عن أداء مسؤولياتها لتغيير وتصحيح الأوضاع السيئة والمقلوبة في المجتمع. وتقف النُخب عادة أمام أمواج من التحدّيات تجعل مهمتها غير سهلة أو مجرد عمل بسيط ومألوف، ومن بين أهم هذه التحدّيات ما يلي:
التحدي الأول: عدم وعي النُخبة
إن عدم وعي النُخبة ذاتها بأهمية وخطورة الدور الذي يقومون به في حياة المجتمع، والذي يعود بطبيعة الحال إلى مستوى وعي وثقافة المجتمع حيث يشكل النُخبة جزءاً من هذا المجتمع، يؤدي في كثير من الأحيان لعدم تصدّي هؤلاء النُخبة لمسؤولياتهم، والقيام بما يجب القيام به.
التحدي الثاني: ضعف إرادة النُخب
بأن لا تكون لدى النُخبة الإرادة الكافية للتصدي وتحمل المسؤولية كنخبة اجتماعية، خاصة عندما تتشكل قناعة لديها بأن المجتمع ليس مؤهلاً لتكون هناك تضحيات تقدمها هذه النُخب من أجل حماية المجتمع وتطويره والارتقاء به.
التحدي الثالث: عدم وعي المجتمع
وذلك بأهمية الدور الذي تلعبه النُخب في حياتها، وعدم الإدراك بالمخاطر التي تنجم من عدم قيام النُخب بمسؤولياتها ومهامها الأساسية في حمايتها، وهنا تتضاعف حجم مسؤوليات النُخب في رفع مستوى وعي المجتمع بحيث تصل إلى مرحلة يمكن من خلالها للنخب أن تمارس دورها وتقوم بمهامها في الإصلاح على أرضية صلبة من الدعم الشعبي ومساندة كل فئاته ومكوناته.
التحدي الرابع: قمع السلطة
فعادة ما تواجه السلطة، النُخب في المجتمع بالقمع والبطش والتنكيل، خاصة عندما تكون الإجراءات القمعية بهدف صدّ الحركة من أجل إصلاح مواطن الفساد في المجتمع، وتصل هذه الإجراءات إلى مستويات قياسية في القسوة، عندما تطال الحركة الإصلاحية، متنفذين ولهم مكانتهم البارزة في السلطة، وهنا تتحمل النُخب ما تتحمله من معاناة وألم بالنيابة عن المجتمع برمته.
إن القسوة في معاملة النُخب في كثير من الأحيان يكون العائق الأساسي أمام تنامي حركة النُخب ناحية إصلاح الأوضاع السقيمة التي يعاني منها المجتمع ككل، بل قد تكون المانع الأوحد الذي قد يمنع نخبة المجتمع من ابتداء الحركة أساساً وقيادة المجتمع للمطالبة بالإصلاحات.
إن أي تقصير في تحمل النُخب الاجتماعية لمسؤولياتها في التصدي للفساد وعوامل الانحراف والانحطاط في المجتمع بشتى صنوفه وأنواعه، يؤدي إلى استشراء الفساد حتى يصل إلى مستويات تصبح فيه خطراً يتهدد وجود المجتمع بأكمله
التحدي الخامس: ضعف التنظيم
فكثيراً ما يعاني المجتمع، ونخبته خصوصاً، من ضعف التنظيم والتنسيق في المواقف والمبادرات وخطط العمل، فيتيه المجتمع في مساحة واسعة من المبادرات والأعمال الفردية التي تشكل بطبيعة الحال عبئاً وتحدياً إضافياً على ما يجب أن يقوم به النُخب من مهام ومسؤوليات في إصلاح المجتمع، حيث بغياب التنظيم تغيب العديد من المزايا والمنافع الهامة للحركة من أجل التأثير والتغيير وعلى رأسها التخطيط.
التحدي السادس: ضعف الموارد والإمكانات
فكثيراً ما تعاني النُخبة من ضعف الموارد، سواءً البشرية أو المالية، وكذلك من ضعف الإمكانات الفنية والتقنية، ويكون التحدي هذا أكثر قسوة عندما تصادر السلطات القائمة الحريات وتمنع الحركة من أجل الإصلاح والتغيير وتعمل على فرض حصار سياسي وأمني و اجتماعي و اقتصادي لشل حركة النُخبة الاجتماعية، وإعاقتها عن الحركة الإصلاحية، كما أن المواقف السلبية لعامة الناس تجاه نخبها وطبيعة حركتها التغييرية والإصلاحية، تجعل من عمل النُخب أمراً في غاية الصعوبة.
التحدي السابع: تحدي المنافسة لا التعاون
فعادة ما يتشكل المجتمع من مجموعة من الأطياف الفكرية والأيديولوجية، ولكل مكون من مكونات المجتمع طابعه وذوقه ومستوى وعيه الخاص به، وفي كثير من الأحيان يكون التنوع الإثني والعرقي والإيديولوجي في المجتمع، أحد أخطر التحدّيات التي يواجهها النُخب في مسيرة حركتهم نحو الإصلاح والتغيير. فتصبح مهمة التوفيق بين الجماعات التي يتشكل منها المجتمع ضرورة أساسية لنجاح الحركة المطلبية للتغيير والإصلاح وهو بحد ذاته من التحدّيات ليست بالهينة أو السهلة أمام النُخبة.
التحدي الثامن: تحدي القيم والمبادئ
غالباً ما تلتزم النُخبة بمجموعة من القيم والمبادئ في حركتها نحو إصلاح المجتمع في أي جنبة كانت، ومهما كانت طبيعة وقساوة التحدّيات، ويلتزمون بها ولا يتجاوزنها كقيمة ومعنى، سواءً بالتغيير أو التعديل والإصلاح، بينما أطراف الصراع في المجتمع وفي مقدمتهم طرف السلطة لا يلتزمون بأية قيمة أخلاقية ولا بأية مبادئ، مما يجعل النُخبة أمام تحدّيات صعبة أثناء المواجهة والمجابهة مع أدوات الفساد والانحراف في المجتمع، فهم لا يستطيعون بسبب التزامهم بمجموعة من القيم والمبادئ أن يتجاوزوها في معركتهم من أجل الإصلاح والتغيير، بينما يقابلهم على الضفة الأخرى طرف لا يتورع عن استخدام أية وسائل من أجل تحطيم النُخبة عندما تبدأ حركتها الإصلاحية في المجتمع.
هذه جملة من التحدّيات الصعبة والقاسية التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى جعل طريق النُخبة ليس معبّداً بالزهور والرياحين من أجل الإصلاح الاجتماعي في أي صورة من صوره وإنما هو مهمة تتطلب الكثير من الصبر والمهارة والتضحية.
نشر هذا المقال سابقا في مجلة الهدى الورقيّة بالعدد المزدوج 301- 302 / 2017م