يتميز الأئمة الأطهار في دروسهم وعبرهم لنا بالتنوّع في الادوار وفق الظروف الاجتماعية والسياسية، مواكبين مسيرة التطور الفكري والثقافي مع حرصهم الشديد على إبقاء مشعل الرسالة وقاداً مضيئاً للأجيال على مر الزمن.
ومن أروع الدروس ما نقرأه عن الإمام التاسع من أئمة الهدى؛ الإمام محمد بن علي الجواد، عليه السلام، الذي تسلّم مهام الإمامة صبياً في التاسعة من العمر ـ حسب بعض الروايات – وهو أصغر الأئمة سنّاً، بل و أقلهم عمراً، حيث استشهد، عليه السلام، وهو ابن الخامسة والعشرين من العمر، ليكون إماماً في صباه، وشهيداً في شبابه.
التاريخ المحرّف ومسألة العُمر في حياة أهل البيت
عندما تكون ريشة كتابة التاريخ بأيدي مرتزقة البلاط، وتحت أنظار الملوك والسلاطين، فمن المؤكد مطابقته مع معاييرهم في الحكم على مختلف القضايا والأمور، لاسيما ما يتعلق بالقيادة والولاية، ولا غرابة منهم في هذا المذهب كونهم الامتداد الطبيعي للثقافة الجاهلية التي انحنت أمام الإسلام في حياة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، ثم عادت لتلقي بظلالها الكثيفة على الفكر والثقافة في الامة، فالقيادة والولاية لن تكون إلا للوجيه الاجتماعي، والقوي العنيف، و الثري، وليست لشخص مثل علي بن أبي طالب، الذي يصفه التاريخ بأنه “أول صبي آمن بالاسلام”!
وعندما يأتي التاريخ على الإمام الجواد، عليه السلام، فإن أول ظهور له في صفحاته يكون مقروناً بالمأمون العباسي وقد أصبح الحاكم المطلق بعد ذبح أخيه الأمين و سحق جيشه واحتلال بغداد، فكان ذات مرة مع زمرة من اصحابه على خيولهم، فمروا بصبيان في إحدى الطرقات كانوا يلعبون، فهربوا خوفاً من حوافر الخيول، ولم يبق منهم أحد وسط الطريق إلا صبي صغير –يقول التاريخ- فاستغرب المأمون من هذا الصبي وسأله عن السبب في عدم لحاقه بأقرانه الصغار، فأجابه: “ليس عندي ما أخاف منه”! ثم عرفه بأنه الامام الجواد، عليه السلام.
الجدير بالإشارة أن مِحنة الولاية بالعمر القليل عند الامام الجواد، عليه السلام، جاءت تمهيداً لمحنة قادمة أكبر تتمثل في إمامة الإمام الحجة بن الحسن العسكري المنتظر، عجل الله فرجه، حيث قام بالإمامة بعد استشهاد أبيه الامام العسكري وهو ابن خمس سنين
هذه القصة يتداولها البعض في الاوساط الشيعية على أنها دليل شجاعة الإمام، بيد أنها دليل آخر على أن الامام الجواد في صباه كان شأنه شأن سائر الاطفال يلعب في الطرقات، وهو ما استوقف الباحث الشيخ محمد حسن آل ياسين في مؤلفه؛ الامام محمد الجواد، عليه السلام، ضمن سلسلة الأئمة الاثنا عشر، بأن هذه القصة “تكاد تكون أسطورة بيّنة الوضع والتلفيق، خصوصاً وقد ورد ان الامام يومذاك كان في سنّ تسع سنين، وقيل في الحادية عشرة من العمر، وهو منهمك باللعب مع الصبيان، او بمشاهدة لعبهم في الأزقة! ثم ان هذه القصة بما اشتملت عليه من كلام وحوار بين الامام والمأمون كانت السبب في عزم المأمون على تزويج الامام الجوار بابنته أم الفضل، إكراماً له وتعظيماً لما شهده منه من حسن الجواب وسرعة البديهية”!
ولسنا بوارد الحديث عن مساعي المأمون المحمومة للتقرّب من أهل بيت رسول الله، كما فعل مع الإمام الرضا، عليه السلام، والتي انتهت بدسّه السُم الى الإمام، بعد ان استنفد أغراضه، وعلم بانتفاء مصلحة وجود الإمام الرضا الى جانبه في البلاط، إنما يهمنا تحسس الأغيار من معيار العلم والطهر والتقوى والفضيلة والقرابة من رسول الله في أمر القيادة والولاية في الامة، وإن كان صبياً مثل الامام الجواد، عليه السلام، فاذا اردنا معرفة من يكون المُقرّ بهذه المعايير الإلهية، يكفي مراجعة موقف علي بن الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، الذي شوهد في المدينة والى جوار مرقد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وهو يستقبل الامام الجواد مسرعاً “بلا حذاء ولا رداء فقبل يده وعظمه فقال له ابو جعفر، عليه السلام: يا عمّ، اجلس رحمك الله، فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر الى مجلسه، جعل اصحابه يوبخونه، ويقولون: انت عمّ ابيه وتفعل به هذا الفعل؟ أجاب: اسكتوا! اذا كان الله ـ عزوجل- لم يؤهل هذه الشيبة ـ وقبض على لحيته – وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أفأنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون بل أنا عبدٌ له”. (التاريخ الاسلامي؛ المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
الاختبار التاريخي في أمر القيادة
لم يخض الشيعة في اختبار شديد مثل اختبار القيادة في تاريخهم منذ رحيل رسول الله، فقد استشهد الامام الرضا مسموماً في بلاط المأمون، “والامام الجواد له من العمر سبع سنين” في مدينة جدّه رسول الله، فاختلفت كلمة الناس في بغداد وفي الامصار، واجتمع الريان بن الصلت، و صفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وجماعة من وجوه الموالين والثقاة في دار عبد الرحمن بن الحجاج يبكون ويتوجعون من مصيبة استشهاد الامام الرضا، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء! من لهذا الأمر والى من نعقد الى أن يكبر هذا؟ ويعني الامام الجواد، فقال اليه الريان بن الصلت ووضع يده في حلقه ولم يزل يلطمه ويقول له: انت تظهر الايمان لنا وتبطن الشك والشرك، إن كان أمره من الله ـ جلّ وعلا- فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، وإن لم يكن من عند الله فلو عمّر الف سنة فهو واحد من الناس”.
وتشير الروايات الى أن غزارة علم الإمام الجواد، أفحمت السائلين وألجمت المعاندين، ففي موسم الحج اجتمع من فقهاء بغداد والامصار وعلمائهم ثمانون رجلاً قصدوا المدينة ليشاهدوا الامام الجواد ويسألوه عما بدا لهم، واخذوا منه الاجوبة الشافية والدقيقة لمختلف المسائل، وحسب الروايات فان الامام الجواد، عليه السلام، أجاب خلال فترة حياته عن ثلاثين ألف مسألة، ومن أشهرها مسألة الفقيه يحيى بن أكثم وكانت في حضور المأمون عندما سأله عن قتل المحرم للصيد خلال الحج، والجواب طويل بالامكان مراجعة المصادر، وكيف كان ابنهار ابن أكثم من طريقة إجابة الامام، وايضاً كان حال المأمون.
أما الحادثة الأكثر دوياً فكانت في عهد المعتصم العباسي حين قبض على سارق وأراد الفقهاء إجراء الحد عليه فاختلفوا في منطقة القطع لليد، فكلٌ قال رأياً، وكان الامام الجواد صامتاً لا يتكلم، فدعاه المعتصم لأن يدلو بدلوه، فأبى بداية، وبعد أن ألحّ عليه قال: قطع اليد يكون من مفصل اصول الاصابع ويترك الكف، بدلالة الآية الكريمة: {وإن المساجد لله}، كما أورد الإمام حدديثاً عن جده رسول الله: “السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين”، وبذلك نقض الإمام ما أفتى به سواه من علماء البلاط بقطع اليد من الكرسوع، اوالمرفق، فأعجب المعتصم بهذا الرأي ـ يقول المؤرخون-.
ومن الجدير بالإشارة أن مِحنة الولاية بالعمر القليل عند الامام الجواد، عليه السلام، جاءت تمهيداً لمحنة قادمة أكبر تتمثل في إمامة الإمام الحجة بن الحسن العسكري المنتظر، عجل الله فرجه، حيث قام بالإمامة بعد استشهاد أبيه الامام العسكري وهو ابن خمس سنين.
أننا من خلال حياة الامام الجواد، عليه السلام، وما فيها من حكم وأحداث، فان ذلك يدفعنا لكي نؤمن بالغيب ومعجزاته ولكن ذلك الايمان الذي لا ينكر دور المسببات المادية”، بما يؤكد قانون الاسباب والعلل في الحياة
ويعلّق سماحة المرجع المدرسي على هذه النقطة بالذات في “التاريخ الاسلامي” بأنه “صحيح أن هناك الكثير من الاحاديث المتواترة عن الرسول الاكرم في أمر المنتظر، إلا أن سماع الاحاديث شيء والايمان بها شيء آخر.
وأننا من خلال حياة الامام الجواد، عليه السلام، وما فيها من حكم وأحداث، فان ذلك يدفعنا لكي نؤمن بالغيب ومعجزاته ولكن ذلك الايمان الذي لا ينكر دور المسببات المادية”، بما يؤكد قانون الاسباب والعلل في الحياة، وأن الله يجري الأمور باسبابها، فالعلم والمعرفة لن تكون للكبير بالسنّ، ذو اللحية البيضاء، او صاحب الشأن والمنزلة، بقدر ما هي قدرة استيعابية مع إلهام وتوفيق إلهي.
وهذه رسالة الى مجتعاتنا على طول الخط بضرورة الاهتمام بشريحة الشباب والاشبال في تنمية مواهبهم وقدراتهم الذهنية، كما يهتمون بقدراتهم البدنية وظاهرهم الجميل، فجمال الداخل أهم بكثير من جمال الظاهر، وأبقى وأكثر فائدة له وللمجتمع والأمة جمعاء، وذلك من خلال إفساح المجال أمام أي نوع من التجارب العملية، وتمهيد السبل لمزيد من التعلّم والدراسة والبحث، فربما يكون في طفل صغير، أفق مستقبل واعد ومشرق لشعب بأكمله يرى فيه الخير والخلاص من الازمات عندما يتحول الطفل الصغير الى قائد ناجح.