قال الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله: “يا معشر قريش؛ إن حَسَبَ المرء دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله”.
في هذا الحديث يصحح الرسول بعض المفاهيم الخاطئة عند الناس، ويصحح أيضا بعض المفاهيم المهمة التي تنعكس على بناء شخصية الإنسان وتفكيره، بل وتحدّد مصيره.
فهل حسب الإنسان بالمال؟
ام بالعشيرة؟
أم ماذا؟
إن حَسَبَ الإنسان الذي يرفعه هو دينه، وهو الذي يعطيه المقام العالي، فمن يريد أن يكون صاحب مقامٍ عال، وذا حسب رفيع، أن يكون متدينا، ويمتلك المروءة، وهي تعبير عن تكامل الشخصية.
فالإنسان الذي يمتلك المروءة يمتلك الفضائل الحسنة، وليست ـ المروءة ـ بالمظاهر، والعناوين، والشكليات الظاهرية.
ولذا يشير الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، الى حقيقة الإنسان وهو عقله، ” يا معشر قريش؛ إن حَسَبَ المرء دينه”، فمن يريد أن يبني شخصيته في المجتمع، يجب أن يكون ذلك البناء ايمانيا، وبهذا يحظى بالمقام الرفيع.
الإنسان الذي يُحجب عقله ويتبع هواه يبغضه الله، لأن ـ من الطبيعي ـ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المتقين، في المقابل يبغض المعاندين الذين لا يتوبون، ويبغض المستنقعين في النجاسة وهم لا يريدون الخروج منها
“ومروءته خلقه” فالإنسان يُفضّل على الآخرين بالخُلق الحسن، من قبيل: الصدق، والتعاون، والنية الصادقة، واداء الامانة، والعفو، وغيرها من مكارم الاخلاق الفاضلة.
“وأصله عقله” فالإنسان الذي لا عقل له، لا إنسانية له، قد تجد إنسانا لا دين له، ولا مروءة، لكن عنده إنسانية، وقد تجد آخر لا مكانة اجتماعية له، لكنه يمتلك المشاعر والاحاسيس الانسانية، لكن حينما يفقد العقل، فإن إنسانيته تنتهي. لأنه في هذه الحالة يتبع هواه وشهواته، فتحول الى حيوان كاسر بالهوى، وينزو بالشهوة.
فإذا اردنا ان نثبت وجودنا الإنساني ـ قبل المروءة، وقبل الحَسَب ـ لا بد أن يكون ذلك بالعقل، وحتى المروءة والحَسَب، فإنهما لا يكونا إلا بالعقل.
وحديث رسول الله، يوجهنا الى أهمية العقل، ولذا يقول الإمام الرضا، عليه السلام: “ما استودع الله امرء عقلا إلا استنقذه به يوما”. فالعقل هنا في قبال الهوى، وليس في قبال المجنون الذي حُجب عنه العقل عضويا، وإلا فكل الناس يمتلكون عقولا، حتى المجانين.
من اين ياتي السلوك الحسن ؟
تارة يمارس الإنسان السلوك الحسن باعتبار البيئة والعادة وهذا جانب جيد، لكن تارة أخرى يقول بالفعل الحسن، لأن عقله يأمره، وهذا هو المطلوب، فهو يحس بأن شيئا داخليا يأمره باتباع العقل.
ولذا من يمتلك الحس الداخلي بقيمة العقل في قبال الهوى، والشهوات، والتيار الاجتماعي، والمصالح..، يأتي اليوم الذي يُستقذ بعقله ويهتدي الى الحق، ولذا حين نسمع أن فلانا قد استبصر ودخل الى التشيع، فيعني ذلك أن لديه استعداد لاتباع الحق، ويخالف الهوى. في المقابل تجد أشخاص مصادق لقول الله ـ تعالى ـ: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}. فهو يبحث عن هواه ويستجيب له.
صحيح؛ أن هناك أناس لم يهتدوا الى الدين والمذهب الحق، لكنهم يملكون عقولا، ويبحثون عن الحق، وهكذا أشخاص يأتي عليه يوم من الأيام ويهديه الله.
ولذا علينا إيجاد الحس الداخلي ـ قبول الحق ـ، وهو كبح جماح الهوى، وهذا هو استيداع العقل، حتى لو وسوس الشيطان للإنسان، وتاه في يوم من الأيام، فإنه يرجع ما دام عنده عقل مستودع، ويمتلك حس، أن الحق أحق ان يُتبع، وبهذا الحس يوفق الله الانسان للهدى، وينقذه من الضلال. ويتلخص استيداع العقل في الاية: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
الحماقة داء الادواء
أما اذا فقد الانسان عقله، إنه يفقد مكانته، ويكون إنسانا احمق، يقول الشاعر:
لكل دواء يستطب به
إلا الحماقة اعيت من يداويها
والحماقة تعني؛ عدم التعقل، فالأحمق لا يريد الحق ويسعى للعناد، فقد تجد انسانا يتحزّب لعشيرته، او جماعته، اوهواه في قبال الحق، فكيف يمكن مداواة هكذا اشخاص؟
الحق دواء كل داء، فما دام الحق هو دواء الإنسان، فكيف يمكن ان يتادوى به إذا ألغاه وهو الذي يتمثل في العقل؟
فإذا الغى الانسان عقله يتحول الى احمق، والحماقة أسوأ شيء في الإنسان، وعادة الصديق ينفع صديقه، لكن الصديق الأحمق يضر صاحبه أكثر مما ينفعه، لذلك الله ـ سبحانه وتعالى ـ يبغض الاحمق، كما يبغض العبد النوّام.
فالإنسان الذي يُحجب عقله ويتبع هواه يبغضه الله، لأن ـ من الطبيعي ـ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المتقين، في المقابل يبغض المعاندين الذين لا يتوبون، ويبغض المستنقعين في النجاسة وهم لا يريدون الخروج منها.
لكنه ـ تعالى ـ يحب العقلاء الذين يتبعون الحق، قال ابو عبد الله عليه السلام: “ما خلق الله شيئا ابغض إليه من الاحمق لانه سلبه أحب الاشياء اليه وهو عقله”، وليس المقصود بأن الله خلقه احمق اجباريا، فهو خلقه كإنسان، يقول ـ تعالى ـ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، فالانسان عنده ارضية الحماقة، وارضية التعقل، وباختياره وإرادته اصبح احمقا، والآخر أصبح عاقلا بإرادته، وهذا الأخيرهو ما يحبه الله.
إن اختيار الانسان هو الذي يحدد شخصيته، فالله ـ تعالى ـ جعل طريقين، فالذي يسير في طريق الهوى والشهوات..، لا يعطيه الله العقل، لكن الطريق المقابل وهو الوحي، هو الذي ينمي العقل، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. فبالقرآن الكريم ينمو عقل الإنسان
فالمشرك احمق، ولو انه كان العكس من ذلك لآمن بالله، لأن الحق جلي وواضح، وكذلك الكافر، يقول ـ تعالى ـ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، والأسوأ من ذلك ان حياته من سلوكيات ومواقف عبارة عن حماقة، ولهذا يكون ابغض الخلق الى الله.
ولذا فإن اختيار الانسان هو الذي يحدد شخصيته، فالله ـ تعالى ـ جعل طريقين، فالذي يسير في طريق الهوى والشهوات..، لا يعطيه الله العقل، لكن الطريق المقابل وهو الوحي، هو الذي ينمي العقل، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. فبالقرآن الكريم ينمو عقل الإنسان.
وهو ـ تعالى ـ بعث الأنبياء” ليثيروا لهم دفائن العقول”، فاتباع النبي ينمي العقل ويكمله، في المقابل مخالفة النبي تُردي بعقل الإنسان وتحجبه ـ وكمثال ـ إذا سلبت الرحمة منه فإن الغضب الالهي ينزل عليه، لانه ترك ذلك الطريق بمحض ارادته، وكذك طريق الهدى إذا سلب منه فمن يهديه؟ يقول ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. فالذي لا يهتدي هل أن الله لم يرد هدايته؛ أم انه ـ اي الانسان ـ رفض الهداية؟
بالطبع؛ إن اختياره للهدى يكون بإرادته، ولو اراد ذلك لهداه الله، لكنه حينما يعرض عن الهداية، فإن البديل يكون الضلال، وبالتالي فإن مصيره الى نار جهنم، وهو الذي ساق نفسه الى ذلك المصير المشؤوم، وإلا فإن الله ـ تعالى ـ جعل طريقين احدهما الى الجنّة والآخر الى النار، والإنسان يختار احد الطريقين. فهو ـ تعالى ـ قد اعطى القدرة للإنسان للهداية، او للضلال {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
إن الإنسان الضال حينما اتبع طريق الضلال، واتبع فجور النفس، حينها يُسلب التقوى، والهدى، فلم يبقَ عنده عقل، فتصرفاته، كالمعاندة، والاستكبار، وغيرها من الصفات الذميمة تضعّف العقل، وعلى النقيض من ذلك، فإن التواضع للحق، يرفع العقل، يقول الإمام الصادق، عليه السلام: ” ما خلق الله شيئا ابغض إليه من الاحمق لانه سلبه أحب الاشياء اليه وهو عقله”.
وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: “لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له:
أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب”.