بصائر

التوازن ضروري حتى في الانفاق*

يقول  الله ـ تعالى ـ: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

نحن ـ المسلمون ـ نقرأ القرآن الكريم، لكن يجب أن نتدبر في آياته، بالاستفادة من المناهج التي تقرّب الى معاني القرآن الكريم أكثر فأكثر، “ولا يكون هم أحدكم آخر السورة”، فالهم الاساس هو فهم معانيه، والارتفاع الى مستوى بصائره.

حينما نقرأ القرآن الكريم نجد ان الافكار لا تبدو منسجمة في البداية في آية واحدة، فإذا انعمنا النظر، وتدبرنا أكثر، عرفنا العلاقة الوثيقة بين تلك الأفكار أو البصائر التي تحويها الآية الواحدة.

هنا الحديث في هذه الاية عن ثلاثة مسائل:

اولا: الانفاق.

ثانيا: عدم القاء النفس الى التهلكة

ثالثا: الاحسان.

فما هي العلاقة بين هذه المواضيع المختلفة التي اجتمعت في آية قصيرة؟

 حينما ندرس القرآن الكريم نجد أنه يبيّن لنا في ضمن سياقاته الحقائق الكبرى، وهي الحِكَم التي تعتمد عليها التشريعات الاسلامية، يقول ـ تعالى ـ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}، وفي الحكمة الواحدة تتفرع منها عشرات الأحكام، وعشرات البصائر، وعشرات الحقائق.

بصيرة التكامل عظيمة في كل شيء؛ خصوصا في فهم القرآن الكريم، فهو يحوي على أفكار كثيرة، فكل واحد منا يستفيد فكرة معينة، وإذا جمعناها كلها، استطعنا ان نفهم فكرة جامعة، تستوعب الامور الكثيرة، وهذا هو المنهج الذي نطبقه في فهم هذه الآية

هذه الحكمة تأتي في سياق الآية القرآنية، وهي تتصل بما قبلها، وما بعدها، وليس أيضا مقتصرة على ذات الآية فقط، ـ وكمثال ـ عملي إذا اردت نصحية أحدهم، بعدم الذهاب الى منطقة معينة فإنك تقل له: لا تذهب المنطقة الفلانية، وانتبه على نفسك لا تموت بسرعة. فالنهي عن الذهاب حُكم، والتنبيه هو الحكمة، فالحكم خاص، لكن الحكمة عامة، فأي مكان تريد الذهاب اليه وأحسست بالخطر، فلا تذهب نهائيا، فظاهر الكلمة خاص، وباطنها عام.

حار المفسرون في هذه الآية وكلّا أدلى بدلوه وقالوا فيها كلمات كثيرة، و ـ نحن ـ نرى أن كل تلك الكلمات التي قيلت في هذه الآية يمكن أن تتكامل، وتجتمع الى القمة وهي الحكمة.

في تفسيرنا للقرآن الكريم لا نضرب الكلمة بالكلمة، إنما نحاول ان نجد الجامع المشترك بين هذه الكلمة وتلك، وبين هذه الفكرة والأخرى، وهذا هو التكامل.

ومبدأ التكامل مبدأ عظيم، فالشمس ـ مثلا ـ تتكامل مع القمر، والنجوم مع المظومة الشمسية، والشمس والقمر يتكاملان مع الأرض، كذلك الأحياء في الارض فإنها تتكامل بضعها مع الآخر، وأيضا البشر، يقول الله ـ تعالى ـ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

وبصيرة التكامل عظيمة في كل شيء؛ خصوصا في فهم القرآن الكريم، فهو يحوي على أفكار كثيرة، فكل واحد منا يستفيد فكرة معينة، وإذا جمعناها كلها، استطعنا ان نفهم فكرة جامعة، تستوعب الامور الكثيرة، وهذا هو المنهج الذي نطبقه في فهم هذه الآية.

يقول الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فعلاقة هذه الآية بما قبلها من جهتين:

ـ الاولى: الانفاق في سبيل الله خاصيّة من خصائص المجتمع الاسلامي، وفي الآيات اللاحقة من سورة البقرة يـأتي التفصيل عن هذه البصيرة (الانفاق).

ـ الثانية: الجهاد في سبيل لله بحاجة الانفاق، فمن يذهب الى الحرب بدون سلاح هل يتوقع منه الانتصار؟

فالسلاح يحتاج الى مال {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}، ويقول في آية أخرى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}. فالمال يكمّل الجهاد في سبيل الله؛ جاء جماعة من الناس الى النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، طالبين منه أخذهم الى الجهاد معه.

فقال لهم رسول الله: لا يوجد معي ما احملكم عليه. وهذا ما تبينه الاية القرآنية {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}، فهناك من لديه القدرة على الجهاد، لكن لا ليس لديهم اموال يقتنون بها أسلحة، في المقابل هناك من يمتلك الاستطاعة المالية، وعليهم أن يعطوا الصنف الأول، وهم المعسرين.

عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: “من جهز غازيا بسلك أو إبرة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر”. وقال، صلى الله عليه وآله: “من أعان غازيا بدرهم فله مثل اجر سبعين درا من درر الجنة وياقوتها ليست منها حبة الا وهي أفضل من الدنيا”.

 كذلك الأمر بالنسبة في زيارة الإمام الحسين، عليه السلام، فهناك من لا يستطيع المجيء الى كربلاء المقدسة، لكن بإمكانه أن يجهز آخر لينوب عنه بزيارة الإمام عليه السلام.

{وانفقوا}، من النفق أي الهلاك، فإذا اعطيت فإن ذلك سيذهب، ولا تفكر فيه، {في سبيل الله}، وهنا تحديد الانفاق (بسبيل الله)، لأن هناك من ينفق في سبيل  الشهرة، أو ان ينفق لشخص ينتظر منه استرداد ذلك الانفاق، بأن يجازيه في أحد الأيام بشيء. لكن الاتفاق الحقيقي هو الذي يتمثل في الآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً  إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}.

نحن في الحياة يجب أن نعرف كيف نتصرف، فالإنسان الذي لا يأكل شيئا يهلك، والذي يأكل الزاد عن حاجته ـ أيضا يهلك، يقول الله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. لذلك تجد بعض الناس وبسبب عدم الأكل يُعذبون، والبعض الآخر بزيادته يُعذبون ـ أيضا ـ

ثم يقول الله في سياق الآية الكريمة: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وهنا كثر الحديث عن هذه الكلمة، وهنا لابد من التفصيل.

هذه الحكمة من جهة متربطة بالانفاق والجهاد، ومن جهة أخرى ترتبط بأصل حياة الانسان، فمن أهم مسوؤيات الانسان الدفاع عن نفسه، سواء كان ذلك العدو حشرة، أو فايروس، او عدو بشري، وما أشبه.

أحيانا هذه البصيرة الطبيعية تُنسى لدى البعض، ويتوقف عن التفكير فيها، فيحدث عنه حالة من الارتباك في حياته، فقد يأتي احدهم وينفق امواله كلها في سبيل الله، ويبقى خالي الوفاض، وقد تجد آخر لا ينفق من أمواله شيئا في سبيل الله، وهناك من من وصل الى المليارديرية، لكن بخيل وشحيح، وتجد آخر يندفع بوجه السلطان والتنديد به، دون التفكير بالعواقب، وهذا لا يجوز. ولذا جاء عن الامام الصادق، عليه السلام: التقية ديني ودين آبائي”.

متى ننفق؟

الانفاق في وقته يدفع عن الإنسان الهلاك، وعدم الانفاق في وقته يجر إليه الهلاك، وكذلك إذا انفق كل شيء فإن يجر الى نفسه الهلاك، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} فالاية تشمل حالة الانفاق وعدمه، والمحور أنه يجب أن نبحث عن البقاء، وهو (القوام).

فنحن في الحياة يجب أن نعرف كيف نتصرف، فالإنسان الذي لا يأكل شيئا يهلك، والذي يأكل الزاد عن حاجته ـ أيضا يهلك، يقول الله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. لذلك تجد بعض الناس وبسبب عدم الأكل يُعذبون، والبعض الآخر بزيادته يُعذبون ـ أيضا ـ.

{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، الاحسان فوق الواجب، فالإنسان فوق ما يعطي الحقوق الشرعية المترتبة عليه، إذا وجد مكان يجب الاحسان، كضرورة خاصة، فيجب ان يبادر ويعطي أمواله، لان الله يحبه، هذه الفقرة من الآية تكمل ما قبلها: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، فادفع واحسن، ولكن بشريطة أن لا يستوعب احسانك كل ما عندك من الامكانات، ولكن بقدر الاستطاعة.

ـــــــــــ

*مقتبس من محاضرة للسيد المرجع المدرسي حفظه الله.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا