التشكيك، والتكذيب، والتقوّل، والإشاعة، كلها من أدوات الحرب النفسية الخفية التي لا تقلّ خطورة وفتكاً من الحرب المعلنة بالحديد والنار، واجهها الأئمة الاطهار من بعد الإمام الحسين، عليه السلام، فكانوا قامات سامية تناثرت عندها محاولات القدّ من أشباه العلماء، ومن الحكام الطغاة على حدٍ سواء، فكان سلاحهم الأخلاق، والعلم، وقد اجتمعا في الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، فمع سمو أخلاقه النبوية، كان يُعرف بعالم آل محمد. فقد روي عن الامام الكاظم، عليه السلام: “سمعت أبي جعفر بن محمد غير مرّة يقول لي: إن عالم آل محمد لفي صلبك وليتني أدركته فإنه سميّ أمير المؤمنين، علي، عليه السلام”.
- الإمام الكاظم، عليه السلام، والاستعداد للمرحلة الحاسمة
ابتليت الأمة، كما أبتلي الإمام الكاظم، عليه السلام، بنفرٍ من المدّعين الولاء والحب لأهل البيت، ثقلت عليهم المسؤولية الرسالية وما تتطلبه تحمّل الضغوط والتحديات العنيفة، فبدلاً من الصبر والتأنّي ومتابعة تطورات الساحة السياسية والاجتماعية في غياب الامام الكاظم المسجون من قبل هارون العباسي، انحرفوا صوب رغباتهم النفسية الدنيئة وأعلنوا مذهب “الواقفية”، وكانوا ثلاثة يذكرهم التاريخ، وهم: علي بن أبي حمزة البطائني، و زياد بن مروان القندي، و عثمان بن عيسى الروّاسي، وكانوا المؤتمنين على الأموال التي تجبى للإمام من شيعته فكان عند أحدهم سبعون ألف دينار وعند كل من الإثنين الآخرين ثلاثون ألف دينار، فأبت أنفسهم أن يسلموا هذه الاموال الى ولده الإمام الرضا، فأعلنوا إنكارهم موت الإمام الكاظم، وأنه حيّ! الامر الذي تسبب في إرباك “الصف الشيعي”، بيد أن الإمام الرضا واجه هؤلاء بكل شجاعة وثبات ويقين مستنداً الى شهادات من أبيه على إمامته على مرأى ومسمع من الموالين.
ابتليت الأمة بنفرٍ من المدّعين الولاء والحب لأهل البيت، ثقلت عليهم المسؤولية الرسالية وما تتطلبه تحمّل الضغوط والتحديات العنيفة، فبدلاً من الصبر والتأنّي في غياب الامام الكاظم المسجون من قبل هارون العباسي، انحرفوا صوب رغباتهم النفسية الدنيئة وأعلنوا مذهب “الواقفية”، طمعاً بحفنة من الدنانير كانت بحوزتهم
فما قام به الامام الكاظم دلالة واضحة على علمه بما سيجري بعده ممن يقول بالوقوف عنده، ولا إمام بعده، فعضد موقف ولده في شأن الإمامة والولاية بإعلانه للناس غير مرة بأن: “عَلِیٌّ ابْنِی أَکْبَرُ وُلْدِي، وَأَسْمَعُهُمْ لِقَوْلِی، وَأَطْوَعُهُمْ لِأَمْرِي، یَنْظُرُ مَعِی فِی کِتَابِ الجَفْرِ وَالجَامِعَهِ وَلَیْسَ یَنْظُرُ فِیهِ إِلَّا نَبِیٌّ أَوْ وَصيُّ نَبيّ”.
لقد “اتخذ الإمام موسی بن جعفر، علیه السلام، کافة وسائل الاحتیاط لبيان إمامة ابنه الرضا، فمثلاً؛ کَتَبَ لَهُ کِتَاباً أَشْهَدَ فِیهِ سِتِّینَ رَجُلًا مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ المَدِینة، وکان یُرجع الأمور إلیه في حیاته کما فعل عندما أشخص به إلی البصرة، حیث دفع إلی عبد الله بن وحوم کتباً و أمره بإیصالها إلی نجله الرضا فی المدینة. وکتب في البصرة ألواحاً وبعثها إلی شیعته هناك، وقد کتب فیها: عَهْدِي إِلَی أَکْبَرِ وُلْدِي، وکان یأخذ بعض الحقوق التی تُجبی إلیه ویُبقي بعضها لیعطیه إلی وصیّه الذي یطالبه بها لیكون علامة ظاهرة، کما فعل بداود بن زربي، وذلك يعكس الظروف السیاسیة الصعبة التی کان یعیشها الإمام فی حیاة والده، والتی احتاط الإمام موسی بن جعفر علیه السلام، فیها لتبقی الإمامة بعیدة عن الشكوك”، (الامام الرضا قدوة وأسوة- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
- العلم النبوي، السيف القاطع
مدرسة أهل البيت، منبعها وحي السماء، ومبدأها الغيب، والإيمان بالغيب من أسس العقيدة الصحيحة، الى جانب هذا فان الأئمة المعصومين يعضدون هذا المبدأ بتطبيقات عملية على أرض الواقع عملاً بقانون السبب والمسبب، فكانوا يتحدثون عن العقيدة والأخلاق والفضيلة وحتى الأحكام الدينية بلغة الدليل والبرهان العلمي الملموس لتطمئن قلوب المؤمنين، فكانت حججهم دامغة ذات وقع في القلوب والعقول في آن.
ولعل أشدّ التحديات أمام مسيرة الرسالة كانت في عهد الإمام الرضا، الذي واجه “الواقفية” في داخل الصف الشيعي، كما واجه أهل الجدل والزندقة والإلحاد، وأصحاب المذاهب المبتدعة مثل المعتزلة التي قالت بخلق القرآن، وأن لا وجود لشيء اسمه “كلام الله”! وأن الآيات القرآنية نزلت على النبي في مناسبات وظروف مختلفة، وأن العقل أساس الحكم والتكليف، وليس النقل والروايات عن النبي الأكرم، وفوق كل ذلك، واجه تحدياً سياسياً بتدبير مكيدة من المأمون بجعله ولياً للعهد لتحقيق اهداف سياسية عدّة لسنا بوارد الخوض فيها، وقد كتب الكثير عن هذا الموضوع، إنما المهم في مواجهة الإمام الرضا كل هذه التحديات بقوة فائقة وبهدوء تام، لأنه مسلّح بالعلم والمعرفة الإلهية، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كان الإمام الرضا حريصاً على تدعيم القاعدة الايمانية والعقدية في الامة حتى لا تتأثر بالتقلبات السياسية العنيفة، لاسيما وأن المأمون الذي أظهر الحب والولاء له ولأهل البيت، عليهم السلام، بشكل عام، توجه في نفس الوقت صوب الفلسفة اليونانية وترجمة الكتب في هذا المجال الى العربية
وبعد استشهاد أبيه الامام الكاظم، عليه السلام، تولّى الامام الرضا الإمامة، وواكب حكم هارون لمدة اربع سنين، وفيها “بدأ جمع شمل اصحاب أبيه، وتدريس طلاب العلم وتطوير الحوزة العلمية التي أسسها جده العظيم الامام جعفر الصادق، وأنجز في هذه المجالات انجازات عظيمة جعلت مكانة الإمام الرضا وشخصيته الفذّة، و صيته في المدينة تطغى على جميع الشخصيات السياسية والاجتماعية في الحجاز. و روي عن محمد بن عيسى اليقطيني أنه جمع من مسائلة مما سأله عنه وأجاب عنه خمسة عشر ألف مسألة، وفي رواية أخرى ثمانية عشر ألف مسألة”، (لمحات من سيرة المعصومين- منال دفّار الموسوي).
كان الامام الرضا ملازماً مرقد جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، ليبقى مصدراً للإشعاع العلمي والمعنوي للأمة، حتى حصول التحولات السياسية في الدولة وصعود المأمون الى قمة السلطة في حرب طاحنة ضد أخيه الأمين راح ضحيتها الآلاف من المسلمين، مع الاطاحة برأس الأمين وإهدائه الى أخيه المأمون في خراسان! و كان الإمام الرضا من جانبه حريصاً على تدعيم القاعدة الايمانية والعقدية في الامة حتى لا تتأثر بالتقلبات السياسية العنيفة، لاسيما وأن المأمون الذي أظهر الحب والولاء له ولأهل البيت، عليهم السلام، بشكل عام، توجه في نفس الوقت صوب الفلسفة اليونانية وترجمة الكتب في هذا المجال الى العربية، مع علمه بوجود آلاف الاحاديث والروايات عن الأئمة المعصومين، وعن رسول الله، صلى الله عليه وآله، بما يغني الأمة والعالم بأسره بما يريد من أحكام وآداب وعلوم ومعارف في شتى الصنوف والمجالات.
لم يكتف المأمون بذلك، بل حاول النيل –بزعمه- من الإمام الرضا بإقامة مجلس للحوار “بين الأديان” يكون فيه الامام الرضا طرفاً، وأمامه زعماء الديانات المسيحية واليهودية، والصابئة، وحتى أصحاب الكلام والفلسفة والجدل مثل عمران الصابئي.
و يروى أن أحد اصحاب الإمام الرضا، وكان يهمّ بالخروج الى هذا المجلس، فتحدث الى الإمام وهو في حالة من الاشفاق والقلق، يوصي الإمام بعدم التعرّض لعمران الصابئي ومناقشته فانه يكثر الجدال! فما كان من الإمام إلا أن يهدئ من روعه بالقول: “أ تخشى ان يقطعني”؟!
وفي ذلك المجلس المعروف والمدوي في التاريخ تحوّل عمران الصابئي هذا، من الجدل والتشكيك بوجود الله –تعالى- الى أقرب المقربين الى الإمام الرضا، عليه السلام، كما جعل علي بن محمد بن الجهم، الذي شكك في عصمة الانبياء، يجهش بالبكاء ويقول: “يا ابن رسول الله، أنا تائب الى الله من أن أنطق في انبياء الله بعد يومي هذا إلا بما ذكرته”.
ومن مناظراته العلمية الباهرة ما كان مع المروزي “المعروف بتضلعه في الفلسفة، وتمرّسه في البحوث الكلامية، وكان يُعد في طليعة علماء خراسان، واشتملت على حوار علمي عميق حول توحيد الله وتنزيهه، وتبيين حقيقة صفاته وأسمائه”، (لمحات من سيرة المعصومين).
لقد احتجّ الإمام الرضا، على أصحاب الديانات بكتبهم وبما عندهم من النصوص على حقانية الإسلام، وأن اسم النبي الأكرم موجود في الانجيل، وأخبر “الجاثليق” كبير النصارى، بعدد حواري عيسى وأحوالهم، فتراجع منهزماً، وكذا فعل مع الآخرين من اصحاب الديانات، كما انتهج اسلوب العقل والبرهان في هداية المشككين من امثال عمران الصابئي، بل وحتى اصحاب مذهب الاعتزال، لتكون هذه المناظرات والمجالس حجّة على الاجيال طول الزمن ولا يقول أحد بعدم وجود الدليل العلمي على حقانية الإسلام، وأنه النظام المتكامل للحياة.