- مقدمة ولائية
الله سبحانه خلق هذا الخلق بحكمة، وفضل، ورحمة، واختار من خلقه الإنسان ففضَّله، وكرَّمه، واستخلفه على أرضه وأمره بعمارتها، ولكن هذا المخلوق الضعيف – الإنسان – وقع بين عدوَّين لدودين في هذه الدنيا هما:
- الشيطان الغوي الرجيم؛ الذي أقسم على أن يقعد له الصراط المستقيم حتى يحرفه عنه.
- النفس الأمارة بالسوء؛ وهي مرتع الشيطان وملعبه وقد تتحول إلى عشَّه ومفرخه.
فكيف النجاة من ذلك كله، وأَنَّى له أن يدفع كيد أعدائه إلا بالاعتصام بأوليائه الذين اختارهم الله وجعلهم حبله المتين، وصراطه المستقيم، وهما الثقلان الكتاب العزيز حبل ممدود من السماء إلى الأرض، ومحمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، فهم وسيلة الله، وعروته الوثقى، الذين اصطفاهم واختارهم على العالمين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. (آل عمران: 34).
هؤلاء الكرام اصطفاهم الله واجتباهم واختارهم على علم بهم، وربَّاهم على عينه، وأنزل عليهم كتابه، وأيَّدهم بوحه، وسدَّدهم بلطفه، وحفظهم بسكينته، وأمرنا باتباعهم، وطاعتهم، والاقتداء بهم لأنهم المثال الذي جعله الله للناس في الطهارة، والقداسة، والطاعة.
- الإمام موسى الكاظم عليه السلام
ومن أولئك الأطهار الأبرار كان الإمام السابع من أئمة المسلمين الإمام موسى الكاظم، عليه السلام الذي جمع من الفضائل والكمائل الإنسانية ما لم يجتمع في غيره من البشر في عصره وزمانه، حتى ظن الكثيرون من شيعته ومحبيه أنه الإمام الذي يحكم دولة العدل والقسط، لما رأوا تمام الظروف، وكمال القائد في عصر الإمام الصادق، عليه السلام، الذي ملأ الدنيا بعلمه، وشغلهم بفضله، وغمرهم بجوده وإحسانه، وكان ولده الإمام الكاظم وريثه في كل شيء.
ولذا صبَّت السلطات العباسية الظالمة في أول نشأتها جام غضبها، وظلمها، وحقدها، عليه لمعرفتهم بأن الحق حقه، والحكم حكمه، والولاية ولايته، وهذا ما صرَّح به الإمام موسى، عليه السلام، لهارون حين قال له: “أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم“. (الصواعق لابن حجر: ص 125).
وهي الحقيقة التي صرَّح بها هارون نفسه إلى ولده المأمون كما يروي ويقول: قلتُ لأبي: يا أمير (المؤمنين)، مَنْ هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمتَ من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه؟ ثم أمرتنا بأخذ الرِّكاب له؟ قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده، فقلت: يا أمير (المؤمنين)، أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحقّ بمقام رسول الله، صلّى الله عليه وآله، منِّي ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذتُ الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم”. (عيون أخبار الرضا: ج1 ص91).
فاطمة بنت الإمام موسى وما يميِّز الإمام موسى الكاظم، عليه السلام عن آبائه وأجداده الكرام هو كثرة النسل والذرية، فقد وصلت ذريته إلى (36) ولداً بين بنت وولد، وكان أبرز الذكور الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، ومن الإناث شقيقته السيدة فاطمة، التي ولدت في غرَّة ذي القعدة الحرام من 173ه أي بعد 25 سنة من ولادة أخيها الرِّضا، عليه السلام، لذا كانت متمسِّكة به ومتعلِّقة بأخيها كالسيدة زينب، عليه السلام، وتعلقها بأخيها الإمام الحسين السبط سيد الشهداء، عليه السلام، بحيث لا تُطيق العيش بعيدة عنه، فكانت بحق سليلة المعصومين، وبضعة آبائها الطاهرين المطهرين.
ولذا عندما استقدم أخاها الرضا، عليه السلام، مكرهاً عبد الله المأمون السلطان العباسي من مدينة جده إلى معقله في خراسان في عام 200 هجرية، ليجبره على القبول بولاية العهد فبُويع له في شهر رمضان وضُربت السِّكة ذهبية وفضية باسمه الشريف، وراحت المنابر الإسلامية كلها تلهج بذكره والدعاء له، وهو يعيش فريداً وحيداً في غربته في مدينة خراسان في أقصى الشمال الشرقي من بلاد فارس، فأرسل رسالة إلى أخته فاطمة يدعوها لزيارته مع بعض إخوتها الآخرين.
فاستجابت لدعوته أخته الكريمة الحكيمة التي كانت قمَّة في الذكاء، والطهارة حتى لُقبت بالمعصومة، وحيث لم تستطع فراقه فشدَّت الرِّحال وأرادت زيارة أخيها ولو في أقصى الدنيا، فخرجت من المدينة المنورة قاصدة طريق الرِّضا الأخضر، وسارت فيه إلى أن قاربت مدينة ساوة فمرضت من التعب ومشقة الطريق، وكانت قم قرية صغيرة ساكنة في أطراف الصحراء يسكنها بعض الناس الفقراء لا سيما الأشعريين اليمانيين والخزرجيين من الأنصار الذين جاؤوا وكانوا أول مَنْ سكن في هذا المكان ليكونوا بعيدين عن عيون وملاحقة الحاكم والسلطان.
- القميون يهبُّون لاستقبالها
وعندما سمع القميون أن السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم، عليه السلام، في الرَّكب وهي مريضة وتقصد الوصول إلى أخيها في خراسان التي مازالت بعيدة لحوال ألف كيلومتر فخرج لاستقبالها أشراف قم (آل سعد)، وتقدمهم موسى بن خزرج، فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها، وجرَّها إلى منزله، فكانت في دار موسى بن خزرج (وهو ما يُعرف اليوم ببيت النور في قم المقدسة)، سبعة عشر يوماً أمضتها بالعبادة، والابتهال إلى الله تعالى، إلى أن وافتها المنيَّة فذهبت تقية نقية طاهرة مطهرة إلى ربها وجدها وأبيها.
- معصومة قم المقدسة
هكذا شرَّفت وقدَّست قم السيدة الجليلة فاطمة المعصومة فتحولت تلك القرية ببركتها إلى واحة روح، ومنبع نور وضياء، ومع الأيام صارت (عشَّاً لآل محمد) كما وردت في بعض الروايات التي تسميها حرم أهل البيت، عليه السلام، فقد روي عن جدها الإمام الصادق، عليه السلام أنّه قال: “إنّ لله حرماً وهو مكة، وإنّ للرسول، صلی الله عليه وآله، حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) حرماً وهو الكوفة، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم“.
فهوت إليها قلوب الشيعة الكرام، والمحبين لأهل البيت الأطهار، عليه السلام، لاسيما روَّاد وطلاب العلم الديني الذين راحوا يقصدون حوزتها العامرة بآلاف الطلاب من كل أصقاع العالم، ونحن ننعم بجوارها الطاهر منذ سنوات، وهي معاذنا وملاذنا وما طلبناها بشيء إلا وجدنا عطفها ومحبتها وحنانها بالإجابة لنا بحمد الله وفضله، وفضلها روحي فداها، فقد كانت لنا سلوة في محنتنا وغربتنا التي انتقلنا فيها من جوار عمَّتها أم المصائب وبطلة كربلاء السيدة زينب الكبرى، عليه السلام، من الشام في الحرب الكونية علينا فيها، فلم نشعر بغربة بل برعاية وحنان خاص منها.
فمعصومة قم هي شرف القميين، وملاذ العلماء والمتعلمين من شيعة أمير المؤمنين، عليه السلام، في هذا العصر الذي تكالبت الدنيا عليهم، لا سيما في عراق المقدسات والحوزات العلمية العريقة، فتشاطرت الحضور، والحرب، والشهادة، بينهما من سامراء إلى قم مروراً بالنجف وكربلاء، وذلك لأن المنهج واحد والعدو أيضاً والحرب الظالمة من قطعان الظلم والظلام الصهيووهابية التكفيرية واحد، وكما ورد في الأثر أن (الكفر أمة واحدة)، والإيمان أمة واحدة بحمد الله وفضله.
وكثيرة الروايات التي تتحدث عن فضيلة وفضل السيدة فاطمة المعصومة وزيارتها، لا سيما قول أخوها وشقيها الإمام الرضا، عليه السلام: “مَنْ زارها كمَنْ زارني“، و”مَنْ زارها فله الجنة“. وروي مثل ذلك عن ابن أخيها وعزيزها الإمام الجواد، عليه السلام، أنّه قال: “مَنْ زار قبر عمَّتي بقم عارفاً بحقها فله الجنة“.