في البدء نقول: لا يمكن لكتاب الله العزيز أن يعطي تأثيره الحي والمؤثر والتغييري إلا مع وجود القدوة العالية والقائد المؤمن، وقد تمثل ذلك في النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم في الأئمة الاثني عشر، عليهم السلام من بعده.
واليوم؛ وفي عصر الغيبة يقوم بمهمة القدوة والقيادة، الفقهاء الصالحون العدول الذين هم نواب للإمام المهدي، عجل الله فرجه الشريف، يتحملون مسؤولية التصدي والتغيير ضمن خطط واسعة مستنبطة من القرآن والسنة، وحينئذ يكونوا خير امتداد للنبي وآله الطيبين الطاهرين.
قال تعالى في بدء سورة إبراهيم:
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} سورة إبراهيم، الآية ١.
الآية المباركة تتحدث عن أن هدفية إنزال القرآن هو لمهمة مكلف فيها الرسول ومن ينوب عنه من الأوصياء والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء. هذه المهمة مستمرة لا تتوقف ولا تتخصص بزمن الرسول محمد، صلى الله عليه وآله، بل تمتد عطاءً وهدايةً من الله للناس (كل الناس) بما أنهم بشر لأجل أن يرحمهم بتوجيههم وتعريفهم بهدف وجودهم على الحياة ومتطلبات السلامة والنجاح فيها، ورفع كل العقبات التي تقف أمام حريتهم وحقهم في الحياة بعز وكرامة.
سورة إبراهيم وما فيها من الآيات تضع ملامح مشروع الإنقاذ العالمي المتوجب على القائد المؤمن ومن معه من الصالحين في ضرورة إنهاء ظلم الطغاة وخطورة عواقب الركون لهم
إذن؛ هناك مهمة كبرى وعالمية تقع على القدوة والقائد المؤمن، وهو السعي المكثف والدؤوب لإنقاذ الناس جميعاً في العالم من كل الظلمات التي يعيشون فيها، وإخراجهم إلى واقع النور الإيماني التوحيدي، وكل ذلك ضمن قوانين الله التي عبرت عنها الآية الكريمة {بإذن ربهم}.
- معنى الظلمات
وهنا نتساءل عن معنى هذه الكلمة؟
جاءت لفظة الظلمات بصيغة الجمع المطلق، أي كل ظلمة مخالفة للنهج الرباني الذي يعي تفاصيله العامة القائد العالم المؤمن.
من ثم، فهي تشمل ظلمات الجهل والكفر والنفاق والاستبداد والتخلف العام والعادات الخاطئة والتقاليد المخالفة للدين وقيمه.
ومن الظلمات؛ كل الأخلاق السيئة لأنها معاكسة للتعاليم القرآنية وللفطرة السليمة. ومن الظلمات أيضاً، أية أجواء سيئة في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والفكرية للناس.
و أشد أنواع الظلمات؛ الاستبداد والطغيان لدى الحكام، لأن الأجواء العامة في ظل حكمهم تساعد على نشوء ونمو كل الظلمات الأخرى، ومن هنا كان التغيير السياسي، و إيقاف الحاكم الجائر عن ظلمه وطغيانه، هو الأولوية الأولى في العمل بالقرآن الكريم، وإن أصر على عدم الإذعان بإيقاف ظلمه واستبداده، تصبح عملية إزاحة الحاكم الجائر ضرورة شرعية لا مناص منها.
وفي الآية الثانية والثالثة من سورة إبراهيم، يكشف الله –تعالى- أن أكثر الظلمات شدة هي منهجية وقيادة الطغاة المتحكمين والمستبدين والمحاربين لسبيل الله، كما جاء في قوله تعالى:
{وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}.
مع ملاحظة أن لفظة الكافرين هي أوسع ممن كفروا بالإسلام كعقيدة، بل يشمل حتى من يعتنقه ظاهراً ويحاربه عملاً مثل الكثير من الحكام الطغاة المنافقين الذين لا يوجد لديهم من الدين إلا ديكور الصلاة أمام كاميرات الإعلام والإدعاء اللفظي بتأييد الإسلام، بينما كل سياساتهم العامة وسلوكياتهم الخاصة مخالفة ومعادية بل ومحاربة للدين، وهم من عبّر عنهم القرآن بالأعراب، و وصف كفرهم العملي بأنه الأخطر والأشد، كما في قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، سورة التوبة،٩٧.
وقد استفاض القرآن الكريم بوصف المنافقين المعادين عملياً للدين بالكفر في عدة آيات:
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كسالى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}، سورة التوبة،٥٤، وقال تعالى في الآية ٨٠ من سورة التوبة عن المنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْلَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين}. وفي الآية ٨٥ من سورة التوبة قال تعالى عن المنافقين: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
حتى إقامة هؤلاء الطغاة للمساجد والمشاريع الدينية ظاهراً هي لغير هدى وتقوى الله بل لمحاربة الله تعالى، واعتبارها عملياً وسيلة لتفريق صفوف المسلمين، كما قال تعالى عن جماعة منافقة في زمن رسول الله بعد أن بنوا مسجداً: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، سورة التوبة، الآية١٠٧.
فالله يؤكد في هذه الآية أن عمل هؤلاء المنافقين، حتى ولو قالوا و ادعوا أنه لصالح الناس، فهم كاذبون.
- النبي موسى من عظماء قادة التغيير
في ذات سورة إبراهيم المباركة يضرب الله مثلاً بنبيه موسى، عليه السلام، كتجربة عملية حين طلب الله منه أن يخرج قومه من الظلمات الى النور، وكيف إن موسى استجاب لربه وعمل وجاهد وقام بتبليغ رسالة الله لقومه ولفرعون، ثم استطاع بتوفيق الله أن ينهي عذابات قومه ويوضح لهم الدين الحقيقي بتوحيد الله وطاعة القيادة الربانية، ولذا جاءت الآية الكريمة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، سورة إبراهيم،الآية ٥.
أشد أنواع الظلمات؛ الاستبداد والطغيان لدى الحكام، لأن الأجواء العامة في ظل حكمهم تساعد على نشوء ونمو كل الظلمات الأخرى، ومن هنا كان التغيير السياسي، و إيقاف الحاكم الجائر عن ظلمه وطغيانه، هو الأولوية الأولى في العمل بالقرآن الكريم
وهنا نلاحظ أيضاً تعدد الظلمات التي كان فيها قومه، وكان أشدها الاضطهاد والقهر والتعذيب في زمن فرعون، ثم أنهم بعد انقاذهم من ذلك البلاء العظيم، استكانوا لظُلمة الدِعَة في غير موقعها، وتركوا الجهاد الواجب عليهم حين طلب منهم النبي موسى، حيث قالوا:{قالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، سورة المائدة، الآية٢٤.
وقوم موسى رغم ما رأوه من عظمة هلاك فرعون، إلا أنهم كانوا في ظُلمة الإيمان السطحي، وظلمة التأثر بالأجواء المادية، وظلمة التخلف عن طاعة القيادة المؤمنة، فسرعان ما عبدوا العجل الذهبي في ظل غياب نبيهم موسى متأثرين بتأثيرات و بريق الذهب الذي خدعهم به السامري. ثم طلبوا من موسى أن يُريهم الله جهرة، وهو ما يكشف عن عدم وعيهم وتدني ثقافتهم العقيدية، لذا جاء الأمر الإلهي بالإنقاذ الثاني لبني إسرائيل من ظلمات أخرى.
سورة إبراهيم وما فيها من الآيات تضع ملامح مشروع الإنقاذ العالمي المتوجب على القائد المؤمن ومن معه من الصالحين في ضرورة إنهاء ظلم الطغاة وخطورة عواقب الركون لهم، وفي ضرورة العبادة السليمة لله وأهمية الطاعة المتقدمة للقادة المؤمنين والسعي معهم، وتعطي السورة تأكيداً على أن النصر حليف المطيعين لخط الانبياء، وأن الهلاك عاقبة المستكبرين.
إن الناهضين بالمشروع الإلهي العالمي يتوجب عليهم التعرف على ملامح وأبعاد هذا المشروع الإلهي، وسورة إبراهيم تضع قواعد هذا المشروع الضروري لعالمنا المعاصر.
والآن أدعوكم أحبتي القراء لساعة تفكّر وتأمل في كل آيات هذه السورة العظيمة لتكتشفوا بأنفسكم ملامح هذا المشروع العظيم الذي نحن أحوج ما نكون للعمل به.