- مقدمة اجتماعية
الدِّين الإسلامي هو دين الله في الأرض، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. (آل عمران: 19)، وهو الدِّين الذي ارتضاه الخالق لضبط حياة الخلق، فجعله خُلاصة الأديان السماوية وكتابه القرآن الحكيم جامع لكل ما نزل من السماء كما في الرواية، قال، صلى الله عليه وآله: “أُعطِيتُ مكانَ التَّوراةِ السَّبعَ الطِّوالَ، وأُعطِيتُ مكانَ الزَّبورِ المئين، وأُعطِيتُ مكانَ الإنجيلِ المثانيَ، وفُضِّلتُ بالمُفصَّلِ“، ولذا الدارس والمتأمل في تشريعات الدِّين الإسلامي يجدها كاملة وتامَّة وشاملة، لكل جوانب الحياة البشرية، وهذا ما يُميِّز هذا الدِّين وهذا التشريع الراقي جداً.
في رواية جميلة ورائعة لأمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، يقول فيها: “مَنْ أَدَامَ اَلاِخْتِلاَفَ إِلَى اَلْمَسْجِدِ أَصَابَ إِحْدَى ثَمَانٍ؛ آيَةً مُحْكَمَةً، وَأَخاً مُسْتَفَاداً، وَعِلْماً مُسْتَطْرَفاً، وَرَحْمَةً مُنْتَظَرَةً، وَكَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى اَلْهُدَى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، وَتَرْكَ اَلذُّنُوبِ حَيَاءً، أَوْ خَشْيَةً“
وكل تشريع سماوي، أو كتاب رباني، ونبي ورسول هم لأجل المجتمع البشري، وفي خدمة الإنسان في كل زمان ومكان، فما من نبي ولا رسول ولا كتاب ولا دين إلا وهو موجه للمجتمع، ليصنع مجتمعاً فاضلاً، وإنساناً تقياً، وأسرة نقيَّة، فكل الرسالات ذات صبغة اجتماعية وهدف واحد يتمثل بإخراج الناس من الظلمات والجهل والتخلف إلى أنوار العلم والتقدم والتطور.
فالإنسان مأمور بعمارة الأرض بالصالحات، ومنهي من أن يُفسدها أو حتى يُفسد فيها، ولكن لا بد من قائد ومصلح لهذا المجتمع، وهو يحتاج إلى مكان وقاعدة ينطلق منها في رسالته الإصلاحية، لا سيما في الدِّين الإسلامي الذي تصدى لقيادة الدنيا بأسرها، والبشرية كلها، كما في خطاب القرآن الحكيم للرسول الكريم، صلى الله عليه وآله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. (الأنبياء: 107) .
- المسجد قاعدة الانطلاق
ولذا نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أول شيء فعله عندما هاجر إلى يثرب ليبني دولته على تشريعات الله سبحانه كان المسجد هو الأساس الذي بدأ به، وذلك لما لهذا الصرح الحضاري من أثر في البناء الكلي للمجتمع الإسلامي، فما أن وضع رجله المباركة في يثرب وفي المكان الذي توقفت فيه ناقته المأمورة عند بيت أبو أيوب اشترى البستان المقابل وراح يعمل هو ـ روحي فداه ـ والمسلمون جميعاً في بناء المسجد، ثم بنى لنفسه بيوتاً، فكان بناء المسجد مقدماً على كل بناء في الحضارة الإسلامية لما له من أثر كبير وإيجابي في تكوين وتثقيف وتوجيه المجتمع الجديد.
فالمسجد ليس بناء من حجارة وطين وجريد النخل لا أبداً بل هو بناء نفوس طاهرة، وأسر مباركة، ومجتمع فاضل، فهو المكان الذي يُربَّى في أفراد المجتمع الإسلامي على قيمه، وقوانينه، وتشريعاته الحضارية، ويُبلِّغهم الآيات والسُّور النازلة ويُعطيهم أحكامهم، وحلالهم وحرامهم، ويفصل فيما بينهم من خصوماتهم فيُعطي الحق لصاحبه، ويردع المعتدي ويُعيده إلى صوابه ويوقفه عند حده، كما أمر الله وبيَّن رسول الله، صلى الله عليه وآله.
ومن هنا نعلم أن المسجد هو رئة المجتمع الإسلامي الذي يضخ الحياة في أطرافه وأوصاله بما فيه من طاقة إيجابية يُنعش فيها رواده الكرام ولذا نجد الحث الكبير من الرسول العظم، صلى الله عليه وآله، وأئمة المسلمين على بناء المساجد وعمارتها بأهلها وروَّادها وطلاب الحق والعلم فيها، فمساجدنا هي مدارسنا وجامعاتنا التي حفظت هذا الدِّين العظيم وأوصلته إليها بهذا الشموخ والعظمة.
- رسالة المسجد الاجتماعية
في رواية جميلة ورائعة لأمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، يقول فيها: “مَنْ أَدَامَ اَلاِخْتِلاَفَ إِلَى اَلْمَسْجِدِ أَصَابَ إِحْدَى ثَمَانٍ؛ آيَةً مُحْكَمَةً، وَأَخاً مُسْتَفَاداً، وَعِلْماً مُسْتَطْرَفاً، وَرَحْمَةً مُنْتَظَرَةً، وَكَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى اَلْهُدَى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، وَتَرْكَ اَلذُّنُوبِ حَيَاءً، أَوْ خَشْيَةً“.
والبحث في هذه الفوائد الثمانية كما يُحددها أمير المؤمنين، عليه السلام، بهذه الكلمة الحضارية نجد أن المسجد مدرسة وجامعة كبرى لتخريج أولئك الأتقياء الأنقياء في الإسلام ومجتمعه، حيث يجعل استفادة الآية وتفسيرها، أو تأويلها، أو حفظها، وتلاوتها هي من أولى الثمرات التي يقطفها روَّاد المساجد، وما أعظمها من ثمرة تصنع من أمثال سلمان، والمقداد، وعمار، وأبا ذر الغفاري.
وأما الثمرة الأخرى فهي أساس المجتمع الذي بناه رسول الله، صلى الله عليه وآله، على الأخوَّة الإيمانية كما أمر الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. (الحجرات: 10)، فاكتساب وربح أخ في الله من المؤمنين هو من الثمار العظيمة في ارتياد المساجد لأن تلك الأخوة والصداقة تُبنى على تقوى الله فتدوم حتى في الآخرة، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}. (الزخرف: 67).
نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أول شيء فعله عندما هاجر إلى يثرب ليبني دولته على تشريعات الله سبحانه كان المسجد هو الأساس الذي بدأ به، وذلك لما لهذا الصرح الحضاري من أثر في البناء الكلي للمجتمع الإسلامي
وهكذا بقية الثمرات والفوائد التي يجنيها روَّاد وأصحاب المساجد، وشرحها يحتاج إلى مقالات كثيرة، ولكن هنا نكتفي بالجوانب التربوية الحضارية لحاجتنا إليها في هذا العصر الأغبر الذي ابتعد فيه شبابنا عن المسجد، فوقعوا في حبائل الشيطان الرجيم، فكم من شبابنا وأسرنا اليوم لا يدخلون المساجد وربما لم يدخلوه يوماً، وبعضهم حتى لا يُفكر بالذهاب إلى المسجد الذي قد يكون ملاصقاً لبيته، والكثير منهم قد ينزعجون من صوت الأذان الذي شرَّعه الله تعالى ليُذكرك بموعد لقاءك بالله تعالى، فبادر إلى بيته، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “في التوراة مكتوب: أن بيوتي في الأرض المساجد، فطوبي لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني في بيتي، ألا إن على المزور كرامة الزائر، ألا بشر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة“، فالمساجد بيوت الله في الأرض، والأذان دعوة، والصلاة لقاء مع جبار السماوات والأرض فالبعض بدل أن يُبادر إلى الوضوء والسعي إلى المسجد يغضب من سماع صوت الأذان، وهنا يتحقق شكوى المسجد منا حيث يقول: “يا رب عطَّلوني وضيَّعوني“.
- الأدوار التربوية للمساجد
عالج المرحوم محمد تقي فلسفي في محاضراته الرائعة عن التربية هذا الموضوع وبيَّن “أن المسجد يمثل النواة الاجتماعية الثانية بعد الأسرة، فعلى علماء التربية أن يضعوه في حساباتهم عندما يُقننون القوانين العصرية في التربية المستوحاة من القرآن، وكلام المعصومين، عليه السلام، وتزداد أهميته بعد أن تراجع كثير من الأسر عن الدور المرسوم لها من قبل التشريع الإسلامي”، كما نعيش في كل بلادنا العربية والإسلامية، التي تركت التربية إلى الشارع، ووسائل التواصل والتلفاز والمدرسة وتضاءل دور الأسرة، والمسجد في تربة الأجيال فنجدها كما نرى من مآسي.
فللمسجد دور كبير وأساسي على المستوى الفردي، ومن أهم أدواره الحضارية التي افتقدناها:
- الدور الروحي والبرنامج العبادي الذي يكون في المسجد أول خطواته الروحية والتربوية.
- الدور القيمي والأخلاقي فالمسجد هو الذي يُربي الأجيال على قيم الدين وفضائله.
- الدور العلمي والثقافي فالمسجد له الدور الأبرز في ذلك لاسيما بالجمعة والجماعة.
- الدور الإسلامي وتعزيز الهوية والانتماء لدى الأمة التي أضاعت هويتها بسبب هذا الغزو الثقافي لها، لا سيما من دوائر الاستكبار العالمية.
كما للمسجد أدوار أخرى جماعية واجتماعية وقيادية وسياسية لا يمكن للمسلمين ومجتمعاتهم أن يتخلوا عنها فهو الذي شكَّل أول حكومة في الإسلام، ومنه انطلقت كل الخيرات والبركات والأنوار لهداية الأمة وقيادتها في حروبها وغزواتها وسراياها فقد كان المسجد هو المنطلق لكل ذلك، فما من بعث أو غزوة أو راية جهاد إلا وانعقدت في المسجد، وحتى الوفود كانت تُلتقى فيه، والرسائل إلى الملوك والقادة والأباطرة تنطلق منه وإليه تعود.
- حاجتنا لمساجدنا في واقعنا
فما أحوجنا إلى هذه القاعدة الربانية والبيوت الرحمانية في واقعنا المزري وفي عصرنا الرقمي الذي ضاعت فيه الأمة وذهب الكثير من قيمها بهجر المسجد وتركه خالياً إلا من الشيبة فقط، لا سيما ونحن نعيش هذه الأزمات المتتالية والفتن التي جاءت كقطع الليل المظلم – كما في الرواية – فالنجاة هو بالعودة إلى متاريسنا الحضارية وقيمنا السماوية وننطلق من المسجد لنبني الحضارة الإنسانية التي نريدها.
فنحن والعالم من حولنا نصطلي بنيران هذه الحروب التي يفتعلها صبيان النار الأموية، وقطعان التكفير الصهيووهابية المجرمة، كما أننا نعيش الحصار الذي لم تعهده البشرية من قبل من هذا الفايروس المنحوس (كوفيدا 19)، الذي حصد الكثيرين من أحبتنا فهذا سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، عليه السلام يقول: “إن الله عز وجل إذا أراد أن يصيبَ أهل الأرض بعذاب قال: لولا الذين يتحابون بجلالي، ويعمرون مساجدي، ويستغفرون بالأسحار، لأنزلتُ عذابي“، فهو يوضِّح لنا أهمية التواجد والحضور في المساجد فهي نبراس ومتراس لدفع البلاء ونزول الرحمة بإذن الله.