قد يضطر الإنسان أن يحيا حياته في موقع ملوَّث بالجراثيم، ومحاط بالأخطار التي تهدّده باستمرار. مثل هذا الانسان، بالاضافة الى ضرورة مراقبة وضعه ومحيطه وبيئته باستمرار وبشكل يومي، فهو بحاجة – بين فترة وأخرى – الى التوقف لتقييم وضعه الصحي، لكي يطمئن من سلامته، ويعالج نقاط ضعفه الصحیّة إن كانت ليواصل حياته بشكل أفضل.
-
مسابقة الشیطان والاهواء
نحن وجودنا في الدنيا تماماً مثل هذا الإنسان، فنحن نحيا في جوٍ يتسابق فيه ابليس وشياطين الجن والانسان، والنفس الأمّارة بالسوء، والأهواء والشهوات والرغبات السلبية المنبوذة، من أجل تحريفنا عن الصراط المستقيم، وإلقائنا في مستنفع الذنوب والمعاصي والضلالات.
وهنا نحن نحتاج الى التنبّه لأنفسنا ومراقبتها ومحاسبتها بشكل يومي، لكي لا نقع ضحية هؤلاء الأعداء، ولا نؤخذ على غرّة، وهكذا فاننا بالصلوات اليومية، وتلاوة القرآن، والأدعية، والزيارات، والأذكار، وما شاكل، نحاول أن نواجه كل هذه التحديات بنجاح، ومع ذلك فاننا بحاجة الى فترة سنوية تمتاز بعوامل تساعدنا على إعادة تقييم الذات واكتشاف الثغرات ونقاط الضعف وسدها ومعالجتها، لكي نطمئن من وجودنا في وسط الجادة وعلى المسار السليم.
-
محطة التقییم والبناء
هذه الفترة الزمنية – أو قل: محطة التقييم والبناء – هي شهر واحد أقرّه الله تعالى لعباده في كل عام: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
في هذا الشهر العظيم والمبارك فرض الله علينا الصيام (والذي يعني الكف عن بعض الامور الاساسيّة المحلّلة لفترة زمنية محدودة) للتدرّب على ضبط النفس، والتحكّم بالغرائز والأهواء والرغبات، وعدم الانجرار وراء المغريات التي قد توقعنا في الهلكة، فكتب علينا الصيام بهدف واحد ومهم بيّنه الرب في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فالهدف من الصيام هو الوصول الى (التقوى).
-
لعلکم تتقون
والتقوى تعني تحمل أمانة المسؤولية تجاه النفس، والعلاقة مع الرب، والعلاقة مع سائر المخلوقين والمخلوقات، واحترام الحقوق والحرمات، وكل ذلك يتخلص في: (طاعة الله في اوامره ونواهيه).
ولكن المشكلة اننا قد نطوي شهر رمضان المبارك ونصوم فيه، ونتلو القرآن، ونقرأ الأدعية، ونكرر الأوراد والأذكار المختلفة، ولكننا عند انتهاء الشهر الكريم نعود الى المربع الأول، ونواصل نفس الحياة التي كنا نحياها قبل دخولنا هذا الشهر فنخرج منه كما دخلنا فيه.
في الحقيقة إن المطلوب منا أن نخرج من هذا الشهر وقد اكتسبنا ثروة جديدة هي (التقوى)، فشهر رمضان هو شهر التغيير واعادة بناء الذات، هو شهر تقييم المسيرة الحياتية، لنعرف كم هي المسافة التي تفصلنا عن الله تعالى
في الحقيقة إن المطلوب منا أن نخرج من هذا الشهر وقد اكتسبنا ثروة جديدة هي (التقوى)، فشهر رمضان هو شهر التغيير واعادة بناء الذات، هو شهر تقييم المسيرة الحياتية، لنعرف كم هي المسافة التي تفصلنا عن الله تعالى؟
هل انفصلنا عن قافلة المؤمنين، أم لازلنا في المسار الصحيح؟
هل السمة الغالبة على حياتنا هي طاعة الله أم المعاصي والذنوب؟
فعندما يصف الإمام السجاد عليه السلام هذا الشهر في دعائه اليومي بأنَّ: “هَذَا شَهْرُ الصِّيَامِ، وَهَذَا شَهْرُ الْإِنَابَةِ، وَهَذَا شَهْرُ التَّوْبَةِ، وَهَذَا شَهْرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَذَا شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّة”.
وعندما يقول الإمام الرضا عليه السلام في حديث طويل عن شهر رمضان: “فَاسأَلُوا اللّهَ أن يَتَقَبَّلَ مِنكُم فيهِ الصِّيامَ، ولا يَجعَلَهُ آخِرَ العَهدِ مِنكُم، وأن يُوَفَّقَكُم فيهِ لِطاعَتِهِ، ويَعصِمَكُم مِن مَعصِيَتِهِ، إنَّهُ خَيرُ مَسؤولٍ”.( فضائل الأشهر الثلاثة، ص97.
فلا يعني أن هذه أمور تتحقق بالاعجاز، وبشكل مؤقت، إنما التوبة، والعودة الى الله (الإنابة) والحصول على الغفران والرحمة الالهية، وضمان العتق من النار والفوز بالجنة، إنما يتحقق كل ذلك بقرار العودة الى طاعة الله، واجتناب معاصيه، ليس في شهر رمضان فحسب، بل يكون الانطلاق من هذا الشهر الكريم بوقود التقوى وثروة التقرب الى الله، لكي نعتصم بحبله ونتمسك بعروته الوثقى طوال السنة.
-
ما بعد الشهر الکریم
وبكلمة:
المؤمن يخرج من شهر رمضان:
1- نادماً عما بدرت منه المعاصي والذنوب.
2- عازماً على تركها وعدم العود اليها.
3- مطهّراً نفسه من الكراهية، والحقد، والظنون، والحسد، والبغضاء تجاه أبناء مجتمعه.
4- متسلحاً بالبصائر القرآنية التي استلهمها اثناء تلاوته للقرآن، لتكون له خارطة الطريق طوال الأشهر القادمة.
5- مطيعاً لربه دون ادنى تردد وتريث.
6- كافراً بالجبت والطاغوت، وكل الانداد من دون الله.
7- مصمِّماً على المساهمة في بناء مجتمعه وتغييره في الاتجاه الصحيح عن طريق الالتزام المستمر بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- متّصفاً بروح ايجابية بنّاءة، حيث يبني علاقته بالآخرين على اساس التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والتواصي بالمرحمة.
9- سالكاً مسار الاحسان الى الآخرين، والتعاون على البر والتقوى، والعطاء، والإنفاق، والأخذ بيد الضعفاء، والتعامل بالعفو والصفح والأخلاق الفاضلة واللسان الطيب والقول الجميل.
10- تاركاً وراءه الرجس والخبائث وكل ما يلهيه عن ذكر الله وإقام الصلاة، من الخمر والمیسر والملاهي.