-
مقدمة تاريخية
إذا أردنا أن نتحدَّث عن التاريخ فإننا نتحدَّث عن أحداث، وأشخاص، ووقائع كان لها الأثر الواضح في جريان التاريخ البشري، وأما إذا أردنا أن نتحدَّث عن صنَّاع التاريخ البشري فإننا سنتحدَّث بلا شك ولا ريب عن الأنبياء والرسل الكرام، صلى الله عليه وآله، فهم الذين صنعوا التاريخ.
وأما إذا أدرنا أن نتحدَّث عن عطر التاريخ ونوره فإننا سنتحدَّث عن محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين الذين اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم على علم على العالمين فاتخذهم أولياء له بعد أن أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم من كل رجس ودنس فكانوا المثال الأرقى لهذا المخلوق المكرم عند خالقه سبحانه وتعالى.
والتاريخ العربي والإسلامي الحضاري والوجه المشرق له كان قد بدأ منذ البعثة النبوية الشريفة في مكة المكرمة ولكن طغاتها، وجبابرتها رفضوا الإسلام جملة وتفصيلاً، وحاربوا رسول الله فيهم بكل ما استطاعوا باليد واللسان والقلب، حتى خرج منها خائفاً يترقب كخروج موسى، عليه السلام من مدينة فرعون، وذهب إلى مدينة يثرب حيث استقبلته قادتها وسادتها استقبال الفاتحين، وبدا منذ اليوم الأول ببناء المسجد، وبناء الإنسان فترافق البناءان المادي والمعنوي بانسجام فريد في التاريخ البشري.
-
ولادة الإمام الحسن عليه السلام
في ذلك المجتمع الناهض على اسم الله تزوج واقترن النور بالنور ـ علي بفاطمة ـ في الأرض بعد أن زوَّجهما الله في السماء من قبل، فكان الفرح عظيماً بتشكيل أسرة النور ونواة المشكاة الربانية التي يشع منها النور على جميع الكائنات، ومثالهم في كتاب الله في سورة النور المباركة حيث جعلهم الله مثالاً راقياً لنوره الأزلي والأبدي.
وكان أول مولود في تلك الأسرة وذلك البيت الذي أذن الله أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه الإمام الحسن السبط الكبر، والمولود البكر لأمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، عليها السلام، وأول برعم يتفتَّح في ربيع الذرية الطاهرة الطيبة لرسول الله محمد، صلى الله عليه وآله.
ولذلك كان الفرح عامَّاً وشاملاً وكان ذلك كما في الرواية الشريفة التي تقول: “لمّا ولد الإمام الحسن، عليه السلام، قالت السيّدة فاطمة، عليها السلام، للإمام علي: سَمِّهِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَسْبِقَ بِاسْمِهِ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وآله، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ، فَأُخْرِجَ إِلَيْهِ فِي خِرْقَةٍ صَفْرَاءَ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُفُّوهُ فِي صَفْرَاءَ؟ ثُمَّ رَمَى بِهَا وَأَخَذَ خِرْقَةً بَيْضَاءَ فَلَفَّهُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: هَلْ سَمَّيْتَهُ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَسْبِقَكَ بِاسْمِهِ، فَقَالَ: وَمَا كُنْتُ لِأَسْبِقَ بِاسْمِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَأَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى جَبْرَئِيلَ: أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لِمُحَمَّدٍ ابْنٌ فَاهْبِطْ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ وَهَنِّهِ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَلِيّاً مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، فَسَمِّهِ بِاسْمِ ابْنِ هَارُونَ، فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ فَهَنَّأَهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُكَ أَنْ تُسَمِّيَهُ بِاسْمِ ابْنِ هَارُونَ، قَالَ: وَمَا كَانَ اسْمُهُ؟ قَالَ: شَبَّرُ، قَالَ: لِسَانِي عَرَبِيٌّ، قَالَ: سَمِّهِ الحَسَنَ؛ فَسَمَّاهُ الْحَسَنَ“.
فكل شيء كان من عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله، فيما يتعلَّق بسبطه العظيم الكريم، الذي كان أشبه الخلق بجدِّه رسول الله صلى الله عليه وآله، قال أنس بن مالك: “لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللهِ، صلى الله عليه وآله،مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِي وفاطمة”، ولهذا كانت أمه السيّدة فاطمة الزهراء، عليها السلام تُلاعبه وتقول:
“أَشْبِهْ أَبَاكَ يَا حَسَنْ ** وَاخْلَعْ عَنِ الحَقِّ الرَّسَن“.
-
صبر الإمام الحسن عليه السلام
حقيقة يتعجَّب المرء حينما يقرأ سيرة هذا الإمام العظيم الذي نصَّبه جده رسول الله صلى الله عليه وآله،إماماً في قوله: “الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا“، ونصَّبه والده أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، عليها وبايعته الأمة بحب ورغبة ودموع وبكاء ولم يتخلَّف عنه إلا بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن الذين تجمَّعوا واعتصموا في الشام لحرب الله ورسوله، يتربصون بالإسلام والمسلمين شراً مستطيراً وكانوا يُخططون لشقِّ الأمة الإسلامية، وشطر الإسلام شطرين؛ إسلام أهل البيت، عليهم السلام الحق والصدق، وإسلام بني أمية الزور والباطل، فما عسى أن يفعل الإمام الحسن، عليه السلام، إلا كما فعل جدَّه في يوم الحديبية (صلحاً)، ووالده في يوم السقيفة (سكوتاً وصمتاً)؟
فهو صار بين خيارين أحلاهما أمرُّ من العلقم، وأمضُّ من حزِّ الشِّفار، وضرب السيوف، فإن اختار الخلافة والحكم انقسم الدِّين، وصار الإسلام قسمين متناقضين، وإن اختار الدِّين الإسلامي خسر الخلافة والحكم ولكن ربح بقاء الدِّين الإسلامي موحداً وإن كان تحت قيادة فاسدة فاسقة، فكان لا بدَّ من اختيار الثاني لأن شعار أهل البيت، عليهم السلام قول أمير المؤمنين: “سلامة الدِّين أحب إلينا“، و”لأسالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصَّة“.
ولكن الإمام المجتبى، عليه السلام، لم يُضحِّ ويخسر الخلافة والحكم فقط ويصبر على ذلك، بل خسر أصحابه المخلصين، حتى تطاول بعض المسلمين، فاضحوا يُنادونه ويُسلمون عليه: “السلام عليك يا مذلَّ المؤمنين”، وهو عزُّهم، وفخرهم، وشرفهم، وإمامهم الذي افترض الله طاعته عليهم ولكن عقول صغيرة، وأحلام قصيرة، ونظرات قريبة لا ترى أبعد من أرنبة أنفها، ولذا كان صبر الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، على هؤلاء أعظم من كل شيء ضحى به في سبيل الله.
-
حلم الإمام المجتبى عليه السلام
وهو أرفع من الصبر الذي تقدَّم لأنه يتبع لأعدائه وهو قادر على الانتصاف بل والانتصار منهم وعليهم في حياته، ولكن كان يحلم عليهم وعلى تصرفاتهم الرَّعناء بحقه لا سيما صبيان النار الأموية الخبيثة الملعونة، ورأسهم الذي علَّمهم الكفر معاوية بن هند الهنود آكلة الكبود، فقد جرَّع الإمام الحسن، عليه السلام، الغصص مراراً وتكراراً في العام والخاص، حتى أنه كان يخطب على المنبر والإمام الحسن، عليه السلام، جالس فينال من أمير المؤمنين، عليه السلام، ولا يستحي على نفسه.
فقيل: “لما استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتى نزل بالنخيلة، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فصلى بالناس ضحى النهار فخطبهم وقال في خطبته: “إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألا وإني كنت منَّيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له”.
هذا الرجل الغادر الذي يُصلي الجمعة عند الضحى، وفي حمص صلاها يوم الأربعاء ضحى، يصبح خليفة وحاكماً ويخطب على المنابر ويُصرِّح بغدره وفجوره دون تأثُّم أو خوف أو وجل.
ولما دخل الكوفة ولما استتمت البيعة له صعد المنبر، فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين، عليه السلام، ونال منه، ونال من الحسن، عليه السلام، ما نال، وكان الحسن والحسين، عليهما السلام، حاضرين، فقام الحسين ليردَّ عليه، فأخذ بيده الحسن فأجلسه، ثم قام فقال: “أيها الذاكر عليا أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله، صلى الله عليه وآله، وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكراً وألأمنا حسباً، وشرنا قدماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً، فقالت طوائف من أهل المسجد: آمين آمين”.
هكذا كان يحلم الإمام الحسن المجتبى على هؤلاء ومن أعجب ما يمكن أن تقرأه عن حلمه أن عندما استشهد بالسم الأموي وفعل بجثمانه ما فُعل من تلك المرأة التي ركبت على بغلة وجاءت تمنعه من زيارة جده، صلى الله عليه وآله، وصبيان بني أمية لا سيما مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ الذي راح يحمل بجنازته ويبكي فقال له الإمام الحسين: “أتبكيه وقد كنت تجرِّعه ما تجرعه؟”
فقال: “إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا، وأشار بيده إلى الجبل”، وفي رواية أخرى قائل له، عليه السلام،: أ تحمل جثمانه وكنتَ تُجرّعه الغصص؟! فقال مروان: كنتُ أفعلُ ذلك بمَنْ كان يوازي حلمه الجبال”.
نعم؛ كان الإمام الحسن المجتبى قمَّة شاهقة لا تُطال، وصبره وحلمه يفوق الجبال.
سلام الله عليه أبد الدهر، واسعد الله أيامكم يا موالين بمولد الإمام الحسن المجتبى .