يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام:
“اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَآنِ الْمَحَبَّةَ، وَمِنْ حَسَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمَوَدَّةَ، وَمِنْ ظِنَّةِ أَهْلِ الصَّلاحِ الثِّقَةَ، وَمِنْ عَدَاوَةِ الأَدْنَيْنَ الْوَلايَةَ“.
أننا للأسف الشديد نتصور ان الدين ينظم العلاقة الفردية بين الإنسان وربه فقط، وعادة فإن قراءتنا للآيات القرآنية والروايات الشريفة، والأحكام الشرعية، هي قراءة فردية، لكن إذا عدنا الى الآيات القرآنية، نجد أن هناك سبع عشر آية تتحدث عن علاقة الفرد بالمجتمع، أما في إذا رجعنا الروايات وفتشنا فسنجد المئات منها تتحدث في ذلك، وباب العِشرة في كتاب وسائل الشيعة شاهد على ذلك، وبأن الدين يظهر بالمعاملة.
فالدين يظهر عندما تكون هناك علاقة بين الإنسان المؤمن وبين بقية المؤمنين، فهناك يتبين مدى تدينه من عدمه، وعادة مشاكلنا تظهرحين تتضارب المصالح، وتختلف الآراء، وتختل العلاقات، سواء العلاقة الزوجية؛ او العلاقة العائلية وغيرها من العلاقات المختلفة.
يقول الإمام السجاد، عليه السلام: “وَأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَآنِ الْمَحَبَّةَ“، الإمام قال: أهل الشنآن، ولم يقل الشآنئ؛ لماذا؟
هناك بعض الناس خبيث في طبعه، فشغله الشاغل أن يؤذي الآخرين، وهذا مثل العقرب، يلدغ الكل، ولا يفرق بين البَر والفاجر، يقال: أن شخصا كان ممددا على فراش الموت، فطلب من ابنه ان يدعو له بعض الأشخاص.
فقال هذا الرجل المسجى: اريد منكم أن تصفحوا عنّي، فلكم حقوق عليَّ، وانا لن استطيع أن أوفي بتلك الحقوق.
فأحد هؤلاء، كان لديه فضول فقال: لن اسامحك حتى اعرف ما هو حقي عليك، فأنت لم تأخذ أي حق منّي؟
فقال الرجل: هل تذكر عندما احترق بستانك، وحُكم على شخص، فتم اخذه الى السجن، فأنا هو من احرق وليس ذاك.
فقال صاحب البستان: لماذا احرقته؟
فقال: رأيتك مع ذلك الشخص وكأنكما على خلاف، فإذا حرقت بستانك، فالتهمة ستتوجه الى ذلك الشخص!
وكذلك فإن بقية الحقوق التي بذمته للآخرين، كانت على ذات الشاكلة، فهو كان يقوم بالمشاكل للمشاكل نفسها، ونحن نتخيل كيف يمكن لإنسان أن يعيش مع هكذا أشخاص، قد عُجنت طبائعهم بالمشاكل والأحقاد؟
“وَأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَآنِ الْمَحَبَّةَ”، عندما يطلب الإمام السجاد، عليه السلام، من الله هذا الطلب، فهل اصلاح هذا الامر متوقف على الدعاء فقط؟ أم ان هناك عملا يجب القيام به لرد بغضة الشآنئ؟
ادعية أهل البيت، عليهم السلام، مع انها تعليمية، إلا ان هناك ابعادا أخرى فيها، فأحد الأبعاد، إذا كان الإنسان صاحب اخلاق رذيلة تؤذي الناس، فإن الادعية تدعوه الى الترك، والبعد الثاني ـ وهو الأهم ـ دفع شنآن ذلك الإنسان، وتحويله الى إنسان مُحب، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
هناك بعض الناس خبيث في طبعه، فشغله الشاغل أن يؤذي الآخرين، وهذا مثل العقرب، يلدغ الكل، ولا يفرق بين البَر والفاجر
كان في احدى الدوائر الرسمي موظف لديه مشكلة مع أحد أعمامي، وكان يحمل الانزعاج من هذه الأسرة، فقال عمي: أن هذا الشخص يقف معرقلا امام معاملاتي، وكانت المعاملة في هذه الدائرة، وعند ذات الشخص.
فقرر العم، ان يدفع شنآن هذا الشخص، فقال لاحد ابنائه: نريد الذهاب لزيارة ذلك ـ ويعني الموظف ـ.
فقال ابنه: لماذا نذهب اليه، وما الحاجة الى ذلك؟
فدخل العم: وسلّم عليه، وذلك الشخص كعادته يرد السلام بأنفة واستكبار.
فقال: ماذا تحتاجون؟
قال العم: لا شيء، إنما جئنا لنتسلى (نسولوف) معك، فأنا ليس لدي أي عمل، ويبدو انك غير مشغول.
تجاذبنا الحديث ـ يضيف العم ـ : وعندما خرجنا من عنده، قام ذلك الرجل، وخرج معنا ليودعنا! ولا يزال هذا الشخص في أحد المناصب المعينة، ويكن الإحترام الكامل لسماحة السيد العم.
دخل رجل من أهل الشام المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول الاعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، ووجد رجلا يركب فرسه عليه هيبة ووقار، وحوله كوكبة من اصحابه يحوطونه من كل جانب.
استغرب الشامي وتعجب ان يكون في الدنيا رجل له من الهاله والتعظيم اكثر من معاويه في الشام، فسأل عن الرجل فقيل له: انه الحسن بن علي بن ابي طالب قال الشامي: أهذا هو ابن ابي تراب الخارجي؟
ثم اولغ سبا وشتما في الحسن و ابيه و اهل بيته، فشهر اصحاب الامام الحسن، عليه السلام، سيوفهم كل يريد قتله، فمنعهم الامام الحسن، ونزل عن جواده فرحب به و لاطفه قائلا: يبدو انك غريب عن هذه الديار يا اخا العرب؟
قال الشامي :نعم انا من الشام من شيعة امير المؤمنين و سيد المسلمين معاوية بن ابي سفيان فرحب به الإمام من جديد؛ وقال له: انت من ضيوفي امتنع الشامي.
ولكن الإمام لم يتركه حتى قبل النزول عنده، وبقي الإمام يخدمه بنفسه طيلة ايام الضيافة، ويلاطفه فلما كان اليوم الرابع بدا على الشامي الندم و التوبة مما صدر منه تجاه الامام الحسن، عليه السلام، وكيف يسبه ويشتمه فيقابله بالاحسان و العفو وحسن الضيافه، فطلب من الإمام، ان يسامحه على ما صدر منه.
يروى إن رجلاً كتابياً هاجم الإمام الباقر،عليه السلام، واعتدى عليه، وخاطبه بمرّ القول: أنت بقر
فلطف به الإمام، وقابله ببسمات طافحة بالمروءة قائلاً:
لا؛ أنا باقر
وراح الرجل الكتابي يهاجم الإمام قائلاً :
أنت ابن الطبّاخة!
فتبسّم الإمام، ولم يثره هذا الاعتداء بل قال له:
ذاك حرفتها.
ولم ينته الكتابي عن غيّه، وإنما راح يهاجم الإمام قائلاً:
أنت ابن السوداء الزنجية البذيئة!
ولم يغضب الإمام،عليه السلام، وإنما قابله باللطف قائلاً:
إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك.
وبهت الكتابي، وانبهر من أخلاق الإمام الباقر، عليه السلام، التي ضارعت أخلاق الأنبياء. فأعلن إسلامه، واختار طريق الحق.
ولهذا قد تكون لدى صاحب الشنآن امراض نفسية حملها من المجتمع الذي يعيش فيه، فقد يكون منبوذا في مجتمعه، وقد تكون عنده عقدة الحقارة، او ما اشبه من الأمراض النفسية الاجتماعية.
ابو الحسن الاصفهاني كان المرجع الاعلى للحوزة العلمية لمدة اربعين سنة، وكان على مستوى عالٍ من الأخلاق، فأحد العلماء اخلتف معه حول مسألة معينة، وقاطع المرجع الاصفهاني، لكن كان هناك شخصا صديق هذا العالم، وهو ايضا من مقلدي السيد ابي الحسن الاصفهاني، يقول: لم ارضَ ان يبقى هذا الخلاف بينهما، فذهبت الى السيد، وقلت له: سيدنا هذا زعلان منكم ..
فقال له السيد الاصفهاني: اذهب وقله ان السيد ينوي زيارتكم.
فذهب الى ذلك العالم وقال له، فرفض قبول الزيارة.
درات الأيام، فمرض العالِم، فذهب الرجل الوسيط، وقال للسيد الاصفهاني؛ فقال السيد: إذن نزره.
ذهب الرجل الى بيت العالم المريض لتمهيد الاجواء، فقال لذلك العالم: انت مريض، وجموع الناس تأتي لزياتك، فإذا زارك السيد الاصفهاني فما يكون موقفك؟
فقال العالم المريض: لن يأتي!
قال الرجل: على افتراض انه يأتي.
قال: لن اسلم عليه، ولن استقبله، بل سأحقره.
فقال الرجل: أنت رجل عالم؛ فهل يجوز أن تحقّر مؤمنا؟
قال: لا.
قال: رد السلام واجب ام لا؟
قال العالم: نعم واجب.
قال الرجل: اذن رد السلام، وابتعد عن تحقير السيد الاصفهاني.
الدين يظهر عندما تكون هناك علاقة بين الإنسان المؤمن وبين بقية المؤمنين، فهناك يتبين مدى تدينه من عدمه
جاء السيد الاصفهاني، ودخل بيت الرجل المريض، فأعرض الأخير بوجهه عن السيد، فلاطفه السيد، وتجاذبا الحديث، وبعد ان خرج السيد الاصفهاني من بيته، خرج ذلك الرجل خلفه حافيا!
“وَمِنْ حَسَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمَوَدَّةَ َ”، احيانا يكون الحسد في القلب فقط، لكن قد يظهر على جوارح الإنسان، وهذا الحسد يؤدي بصاحبه الى البغي.
ثم يقول الإمام، عليه السلام: “وَمِنْ ظِنَّةِ أَهْلِ الصَّلاحِ الثِّقَةَ“، قد يكون هناك شخص غير ملتزم يسيء الظن بالمؤمن هذا شيء طبيعي، لكن إذا كان العالمِ أو أهل الثقة هم الذين لا يثقون، فهذه هي المشكلة.
“وَمِنْ عَدَاوَةِ الأَدْنَيْنَ الْوَلايَةَ”، ما معنى الادنين؟
أدنين: اي اصحاب الدناءة، وهذا جمع بصيغة المفاضلة، فالدنيء إذا اضمر العداوة لأحد، فلن يتورع من ارتكاب اي عمل يؤدي الى الحاق الضرر بالآخرين، فالدنيء ليس عنده مشكلة أن يسب الآخرين ويسبوه، لكن هذا الموضع هو مكانه الذي يراه مناسبا له، لذا قيل: لا تصارع خنزيرا في الوحل! وهؤلاء هم الذي يسميهم الإمام المعصوم بالسفلة، فهو لا يبالي بما قال، ولا بما قيل فيه.
“الْوَلايَةَ”، أن تحوّل هذا الدنيء، من عدو الى ولي، و مقام الولاية مقام عالي، فهناك الصديق، والصديق كما تعبر عنه الرواية؟
ورد رجل من أهل خراسان على الإمام الصادق، عليه السلام قال: سيدي أتجلس في بيتك وتجمع أموال المسلمين وعندك شيعة في خراسان يجاهدون بالسيف دونك! التفت إليه الإمام الصادق قال: هل بلغ بكم الأمر أن يضع أحدكم يده في جيب صاحبه ويخرج منها ما أراد فلا يلتفت إليه صاحبه ولا يسأله كم أخذ؟ قال: لا سيدي، قال: إذا لا خير فيكم. وبعد الصداقة تأتي المودة، وهي اعلى منها، وأعلى من المودة تأتي الولاية.