-
مقدمة عقائدية
هنا نُشير إلى السبب الرئيسي والعامل الأساسي في سقوط الحضارات، وهو العامل العَقَدي، الفكري، الروحي، الثقافي، الدِّيني، هذا هو الأساس الذي يتفرَّع عنه كل العوامل والأسباب في السقوط الحضاري منذ الحضارة الأولى وحتى يعي الإنسان فينهضَ على اسم الله ويبني حضارته الإنسانية الراقية في آخر الزمان بقيادة روحية مختارة من الله (الإمام المهدي)، وبمنهج سماوي إيماني هو (القرآن الحكيم)، وبذلك تتحقق دولة العدل والقسط المنتظرة.
الناظر في الواقع والحقيقة يجد أن الدِّين والعقيدة أساس الوجود كله، وهي أمر مغروس في الفطرة البشرية منذ الخلق الأول
فأحد أكبر الفساد في الأرض هو الفساد العقدي، أو العقائدي، وأعظمه الشِّرك بالله وبنص القرآن الحكيم أمرنا الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}. (٣٦: النساء)، ولذا {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا}. (٤٨: النساء)، ولهذا {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. (٤٨: النساء)، وهذا ما جاء في وصية لقمان لولده: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (١٣: لقمان)، فأعظم الفساد في هذه الحياة هو فساد العقيدة والدِّين، حيث تفسد الروح البشرية، والحياة الإنسانية، ولذا روي عن رسول الله، صلى الله عليه واله، أنّه قال لعبد الله بن مسعود: “إيّاك أن تشِرك بالله طرفة عين، وإن نُشرتَ بالمنشار، أو قُطّعتَ، أو صُلبتَ، أو حُرِّقتَ بالنّار“.
-
أثر الشرك في سقوط الحضارة
الناظر في الواقع والحقيقة يجد أن الدِّين والعقيدة أساس الوجود كله، وهي أمر مغروس في الفطرة البشرية منذ الخلق الأول قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}. (الأعراف: 173).
في تفسير علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله، عليه السلام في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، قلتُ: معايَنَةً كان هذا؟ قال: “نعم فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدرِ أحدٌ مَنْ خالقه ورازقه“، وفي الرواية عن زرارة قال: قلتُ لأبي جعفر،عليه السلام: “أصلحك الله قول الله عز وجل في كتابه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، قال: فطرهم على التوحيد عند الميثاق، وعلى معرفته أنه ربُّهم، قلتُ: وخاطبوه؟ قال: فطأطأ رأسه ثم قال: لولا ذلك لم يعلموا مَنْ ربهم ولا من رازقهم“.
يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله): “إنّ الكلمات القرآنية التي هي محور التشريع الإسلامي، ومنار البصيرة الرسالية، ومصنع الإيمان الخالص يجب أن تُفسَّر وفق السياق القرآني ذاته وما نستنبطه منه، ومن أبرز الكلمات التي تُعتبر مفتاحاً لفهم القرآن، ومدخلًا لفهم الحياة هي الكلمات التي تؤكد عليها آيات القرآن الكريم، وتجعلها محوراً لسائر الأفكار والتشريعات، ومنها كلمة الشرك، والكفر، والفسق، والطاعة، والتقوى، وقد تلخَّصت رسالات الأنبياء في هذه الكلمات، إذ أنها تنهى الناس عن الشرك والكفر أساساً، وعن الفسق والفجور أحياناً، وتؤكد على تقوى الله وطاعة رسوله”، فالدِّين ليس مسألة جانبية بل هو أصلٌ قامت عليه الشخصية الآدمية.
-
غرور الإنسان وخُيلاؤه
فكل إنسان سوي يجد أثر تلك الفطرة في نفسه إلا أن التربية والثقافة والواقع الفاسد الذي يعيش فيه هو الذي يُنسيه الموقف، ويجعله مغروراً فيتكبَّر على خالقه ورازقه، قال السيد في الميزان: “فالإنسان وإن بلغ من الكبر والخُيلاء ما بلغ، وغرَّته مساعدة الأسباب ما غرَّته واستهوته لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه، ولا يستقلُّ بتدبير أمره، ولو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت، وسائر آلام الحياة ومصائبها”.
كما أن التوحيد نبع الخيرات والبركات فإن الشرك بالله وعبادة الطاغوت هو سبب فساد دين وعقائد وأرواح البشر وسيكون هو السبب الأعظم لهدم ودمار حضارته ومدنيَّته وكل مكتسباته في هذه الحياة
ثم يقول: “فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل يُشاهد من نفسه أن له رباً يملكه ويُدبِّر أمره، وكيف لا يشاهد ربه وهو يشاهد حاجته الذاتية؟ وكيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه؟ فقوله: (أ لست بربكم) بيان ما أشهد عليه، وقوله: (قالوا: بلى شهدنا) اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه”.
وقال صاحب تفسير الأمثل، الشيخ مكارم الشيرازي، عن ذلك العهد الرباني: بأنه “عهد فطري، وما يزال كلّ منّا يُحسُّ بآثاره في أعماق روحه، وكما يُعبِّر عنه علماء النفس بـ “الشعور الدِّيني” الذي هو من الإِحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإِنسان، وهذا الإِحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى “طريق” معرفة الله.. ومع وجود هذا الإِحساس أو الفطرة لا يمكن التذرّع بأنّ أباءنا كانوا عبدةً للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون”، فالتذرُّع بشرك الآباء من قبل الأبناء هو دعوة باطلة من أصلها لأنها تجحد الأصل الفطري للتوحيد الذي غرسه الله في فطرتنا جميعاً.
-
هدم الحضارة بالشرك
فإذا ثبت ذلك كله فإن الخروج عن الأصل الأصيل، والبناء على غير الأساس ألا يعني أن البناء سيسقط ويهوي في أي هزَّة عنيفة، أو مشكلة عاصفة به؟ وهكذا الحضارة الإنسانية التي تخرج عن عبادة الله بعبادة الأرباب والأصنام الحجرية والبشرية ألا يدعوها إلى التهافت والسقوط؟
فكما أن التوحيد نبع الخيرات والبركات فإن الشرك بالله وعبادة الطاغوت هو سبب فساد دين وعقائد وأرواح البشر وسيكون هو السبب الأعظم لهدم ودمار حضارته ومدنيَّته وكل مكتسباته في هذه الحياة، ولذا نرى ربنا سبحانه في الآيات المباركة يُعطينا ويضرب لنا أول أمثال لهدم الحضارة بالشرك والكفر بقصة نبي الله نوح، عليه السلام، حيث كان هذا النبي الرسول الأول من أولي العزم وأطول الأنبياء والناس عمراً كان في قومه (950) عاماً يدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله وطاعته وعدم معصيته، فلم يترك وسيلة إلا اتبعها قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} (نوح: 5)، إلا أنهم تركوه وراحوا يعبدون أصنامهم المختلفة كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23).
فمن أعمالهم وكفرهم وجحودهم وإشراكم كان هلاكهم وهكذا كل حضارة تفعل ما فعلوا سيكون نتيجتها هي نفس تلك النتيجة التي كانت لحضارة الإنسان في عهد نبي الله نوح، عليه السلام، وهي حضارة بدائية ولكنها تُناسب ذلك العصر، لأنه “حينما يُصاب محور العقيدة (التوحيد) بالانهيار فإن الفرد إما أن يُصاب باليأس والإحباط والقنوط وضعف الإرادة أو يُصاب بالغرور والتجبر والعدوان وكلاهما يؤدي إلى السقوط”، وكذلك الأمر بالحضارات تماماً.
وهكذا بادت حضارة النمرود في أور العراقية، والفراعنة في مصر، والعمالقة في اليمن، وكل حضارة تُبنى على الشرك بالله والكفر بقيم السماء ستؤول إلى السقوط كما رأينا سقوط الحضارة السوفييتية الشيوعية في أواخر القرن الماضي وربما نشهد سقوط الحضارة الغربية قريباً، لأنها الحضارة التي اشتملت على كل أنواع وصنوف ومعاول الهدم الحضاري كما سنبيِّن فيما بعد.