يقول الإمام السجاد عليه السلام: “وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ، وَلا تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ، وَأَعِزَّنِي وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلا تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدِيَ الْخَيْرَ وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ، وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلَاقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ“.
لولا أن الأئمة، عليهم السلام، علمونا كيف نتحدث مع الله، وكيف نطلب منه حوائجنا، لما عرفنا كيف نطلب منه ـ تعالى ـ.
فقد يطلب الإنسان من الله نعمةً، ولكن لا يدرِ لو أن هذه النعمة اتيحت له من قبل الله، قد يصيبه ضرر او ابتلاء منها، لذا فحين يطلب الإمام زين عليه السلام، خمس خصال (نِعم) ضمن هذا المقطع من الدعاء، فإن يطلب من الله أن ينجيه مما تستلزمه تلك النِعم.
يقول الإمام، عليه السلام، في بداية هذا المقطع: “وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ، وَلا تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ“، لماذا لم يقل الإمام مثلا: واغنني بسعة الرزق؟
يظن البعض ان الغنى هو بالرزق وهذا فهم خاطئ لهذا المفهوم، فأعظم الغنى هو غنى النفس، ولذا يبدو أن للإمام طلبَين هنا؛ طلب عام، وطلب خاص، فالطلب العام: طلب كل ما فيه الغنى، والقسم الآخر:”وَأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ“، وهذا ما هو خاص بالرزق؛ فلماذا الإمام لم يقل: ووسع علي؟
لو كان الإمام، عليه السلام قال: ووسع علي كأنه يطلب سعة الرزق بشكل كبير جدا، لانه كلما وسّع فإنه هناك أوسع منه، بينما عبارة” وَأَوْسِعْ عَلَيَّ”، تعني ـ كما قال العلماء ـ: أن الإمام السجاد، عليه السلام، طلب الزرق الذي يكفيه، وهو طلب الكفاف من الرزق.
كان رسول الله، صلى الله عليه وآله، مع اصحابه وهم يسيرون في الصحراء، فاحتاجوا للطعام والشراب، فوجدوا شخصا لديه شاة، فطلب منه النبي، ان يسقيهم من لبنها، فأبى ذلك الرجل؛ وقال أنها الوحيدة، وربما يجف ضرعها.
فتركه النبي، والأصحاب، ودعا له رسول الله بسعة الرزق، ثم رحلوا، ووجدوا آخر، فطلب منه النبي، لبن شاته، فحلبها وشرب الجميع، ثم قال هل تحتاجون لحمها يا رسول الله؟
فقال رسول الله: نعم.
فذبحها ذلك الرجل، واكل النبي واصحابه.
وعند وداعهم لذلك الرجل؛ رفع النبي يده، ودعا له بالكفاف من الرزق.
لهذا وردت تعاليم النبي وأهل بيته، عليهم السلام: ان على الإنسان ان يطلب الزرق، ولكن يطلب بالمقدار الذي لا يُفتتن بذلك الرزق، وبمقدار انه لا تحتاج الى غيره، أما سعة الزرق، فإن كثيرمن الناس يبتلوا به.
ولا تنفتني بالنظر، او بالبطر؛ فإذا كانت بعبارة (بالنظر)، اي لا تفتني بالنظر الى فلان وعلان، فصاحب الموضات في الملابس والمقتنيات الأخرى، مع ما كل ما يملكه، إلا أن عينه على غيره، فهو ينظر الى من فوقه، وبالتالي لا يتهنى بما عنده!
ولهذا في وصية النبي، صلى الله عليه وآله، لابي ذر: “انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك”.
وإذا كانت العبارة بالبطر؛ فإن الإنسان قد يحصل على نعمة، لكنه يبطر كقوم سبأ، الذين كانوا يرفلون بين نعم كثيرة، وقد اشتهروا بالزراعة، فكانت بساتينهم تحتوي على انواع كثيرة من الفواكه، حتى قيل: أن المرأة إذا حين تدخل البستان وعلى رأسها سلة فارغة، بمجرد مشيها من وسطه تمتلئ هذه السلة بالفواكه.
وكانت قرى قوم سبأ متصلة ببعضها، فهم لا يقطعون المسافات الشاسعة للتواصل فيما بينهم، لكنهم بطروا معيشتهم، وقد سطر القرآن الكريم كلامهم، في قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. وهذا البطر قد يكون كفران بالنعمة، او بالإسراف، او بالتبذير.
وهذا لا يعني أن الإنسان لا يسعى الى تحصيل الرزق، فنعم العون على الدِين الغنى، وإذا كانت الروايات تمدح الفقر، فإن ذلك هو الفقر الممدوح، وذلك هو الافقار من قبل الله ـ تعالى ـ.
فالمذموم في الروايات، هو ذلك “البطال في النهار، جيفة في الليل”، وإلا فإن على الإنسان ان يسعى ويعمل، فالعمل والكد عز لصاحبه، كما أكدت ذلك االروايات الشريفة.