قبل ان نقيّم أي حضارة، لابد أن نعرف الميزان والمنهج في التقييم. فحينما نريد أن نتعرف على حضارةٍ ما، فإننا نضع مقاييسها هي ومنطلقاتها نصب أعيننا، ولكن عند التقييم لا بد أن نقيمها بمعاييرنا نحن، ولو عكسنا الآية فحاولنا أن نفهمها بمعاييرها، ونقيمها بمقاييسها لوقعنا في الخطأ الذي يمنع عنّا الرؤية، وهو الخطأ الذي يقع فيه المنبهرون عادة.
إن لكل حضارة خصائصها وجذورها، ومن ثم فإن لها قوانينها وقنواتها الخاصة بها، فكما أن لكل نهرٍ منبعه ومصبّه ومنعطفه، كذلك لكل حضارة منبعا ومصبها ومنعطفاتها، ولكي نحسن التعامل مع النهر، ونستفيد منه لا بد أن نعرف المنبع والمصب والقنوات، كذلك لا بد أن نعرف الجذور والقوانين والقنوات التي تقوم عليها الحضارة، وهذا لا يعني أن نقبل بمنهجها في ذلك.
واستمراراً في المثال السابق أقول: إنك لا بد أن تعرف النهر من منبعه ومصبه، ولكن إذا اردت تقييمه فلا بد أن تقيسه بما لديك من خرائط.
ثم أن لكل حضارة سطحا وعمقا؛ فالسطح قد يحمل معه كلّ غثٍّ وسمين، وهو الذي يراه الناس عادة، فينخدعون ببعض المظاهر فيه ويبنون تقييمهم بناءً عليه، أما العمق فهو يكشف عن جذور الحضارة، ويعطي الباحث صورة حقيقية عن حقيقتها، وبمعرفة الجذور يمكن معرفة النتاج الحضارة، لأن الثمار مرتبطة ارتباطا وثيقا بجذورها.
ولا يعني ذلك ان جذور حضارة اليوم نظيفة وسليمة تماماً، بل قد يكون خليطا من الخير والشر، غير أن الخير هو الذي يعطي النتائج الخيّرة، والشر يعطي النتائج الشريرة، ولا يمكن أن تنعكس الآية، فينبع الخير من الشر، أو الشر من الخير.
وتماما كما أن الله تعالى يخلق الإنسان نظيفا، حيث أن “كلُ مولود يولد على الفطرة”، كما يقول الحديث الشريف، ثم ينحرف مَن ينحرف، ويبقى سليما مَن يبقى سليما، فإن الحضارات التي تُولد من نُطفٍ نظيف، وتبتدئ طاهرة قد تنحرف في مصباتها ومنعطفاتها، وتتلوث بالشهوات والملذات، ولا تُستثنى من ذلك حتى الحضارة الإسلامية، فحينما تَدخّل اصحاب المصالح وعبّاد الشهوات أفسدوا الحضارة الإسلامية، وحرفوها عن جذروها الأصلية، وحسب تعبير القرآن الكريم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}.
وهنا سؤال يقول: ما هي المقاييس التي نقيّم بها الحضارة؟
الجواب: هنالك مجموعة من القيم والمُثل والقواعد العامة، وبعبارة أخرى هنالك مجموعة من سنن الله عز وجل فيما يتربط بالخلق والحياة، لا بد من استنباطها واتخاذها ميزانا ومقياسا للحكم على كل الظواهر، خاصة الظاهرة الحضارية والتي هي قمة نتاج الإنسان.
من تلك السنن والقواعد والقوانين ـ أو سمها ما شئتَ ـ مسألة وجود الله تعالى والإيمان به، ومسألة كرامة الإنسان وحقوقه، ومسألة العدل والإحسان، ومسألة ضرورة الالتزام بالحد الأدنى من المفردات الأخلاقية، كالصدق، والأمانة، والصلاح، والحق وما شابه ذلك، وبهذه الموازين نقيّم الحضارة.
أن لكل حضارة سطحا وعمقا؛ فالسطح قد يحمل معه كلّ غثٍّ وسمين، وهو الذي يراه الناس عادة، فينخدعون ببعض المظاهر فيه ويبنون تقييمهم بناءً عليه، أما العمق فهو يكشف عن جذور الحضارة، ويعطي الباحث صورة حقيقية عن حقيقتها
فلو نظرنا الى الحضارة الغربية اليوم ـ مثلا ـ فإننا نرى أنها تنتهج الازدواجية في المعايير، فتطبق القيم حينما تكون مصالحها متطابقة مع تلك القيم، وتقفر عليها حينما تتعارض مع مصالحها، فالحرية كقيمة مهمة في البناء الحضاري نجدها موجودة كشعار كبير وبراق في الغرب، ولكن هذه الحرية لا تطبق في كل شيء ولا في كل زمان وإنما حينما تكون سبيلا للوصول الى اهداف معينة، رغم أن الظاهر الجميل للقوانين الجميل للقوانين والدساتير الغربية هو الإيمان بالحرية.
فعلى سبيل المثال حينما تأخذ المرأة كمثال في المجتمع الغربي، فإننا نجد أنهم يرفعون شعار حرية المرأة، ولكن فقط حينما تكون هذه الحرية طريقا لتحقيق متع الرجال، وبذلك تتحول من إنسان له كرامته الى مجرد قارورة عطر، او صور غلاف مجلة، أو مجرد شيء يتذوقه الرجل لجماله، ثم يلفظه، ونفس هذه الحرية يتم سلبها حينما تصبح في الاتجاه المعاكس لشهوات الرجل، فالغرب يحارب حجاب المرأة، ويحاول منعه عن المرأة، ويسن القوانين ضده، فالقانون الفرنسي منذ عام 2004، ينص على منع الحجاب في المدارس والإدارات العامة، إضافة الى قيام الكثير من الدول كفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وغيرهن بمنع النقاب وفرض غرامات مالية على المخالفات.
أما في هولندا فقد فُصلت معلمة مسلمة لأنها رفضت مصافخة زملائها من الرجال، وكذلك اشترطوا للحصول على الجنسية في الدنمارك أن تصافح المرأة الرجل، او الرجل المرأة في حفل إعطاء الجنسية، وقد طردوا امرأة من الحفل، ولم يعطوا الجنسية لها لأنها رفضت المصافحة.
اين حرية المرأة هنا؟
إنها تبقى هناك سبع سنوات، وتؤدي واجباتها كأفضل ما يكون، ثم يرفضون إعطاءها الجنسية، لأنها ترفضص مصافحة الرجل في حفل اعطاء الجنسية، والعجيب أن الغرب باسم الحرية يحارب حرية المرأة في اختيار ما تلبسه وكيف تظهر في المجتمع.
إذن فلا يمكن لمن يقيم حضارة ما أن يتغافل عن انتهاك أصحاب هذه الحضارة للسنن والقوانين الإلهية في الكون، كما لا يمكن إغماض العين عن الجذور التي انتجت نتاجها الحضاري.
هنالك مجموعة من القيم والمُثل والقواعد العامة، وبعبارة أخرى هنالك مجموعة من سنن الله عز وجل فيما يتربط بالخلق والحياة، لا بد من استنباطها واتخاذها ميزانا ومقياسا للحكم على كل الظواهر، خاصة الظاهرة الحضارية والتي هي قمة نتاج الإنسان
إن الحضارة بشكل عام ليست ذات شكل واحد، بل هي متعددة الأشكال والأنماط، وحضارات البشرية، وإن كانت بينها قواسم مشتركة، إلا أنها في ذات الوقت كانت متمايزة فيما بينها، وهذا يعني أن الحضارات هي الأخرى متعددة الانماط، ومن ثم فقوانينها ومناهجها هي الأخرى متعددة، ومن هنا فلا يجوز أن نعتمد على منهج واحد يرتبط بحضارة معنية، لتقييم حضارة أخرى لها منهجيتها الخاصة بها.
إنك لا بد أن تفهم تصرفات كل إنسان ضمن خصائصه وظروفه وأوضاعه، وحتى فيما يرتبط بجسم الذي غالبا ما يكون متشابها مع اجسام الآخرين فلا بد من أخذ خصوصياته بعين الاعتبار، ولذلك نرى أن لكل واحد منا ملفه الخاص به عند الأطباء ويؤخذ بهذا الملف في معالجاته، فكيف إذا كان الأمر يرتبط بروحه؟ ثم كيف إذا كان الأمر يرتبط بحضارة ما؟
وهكذا فإن من السُخف أن نأخذ مقاييس معينة كموازين لفهم حضارة لا تمت إلينا بصلة، وهذا يعني أن من يريد أن يبني حضارته فلا يجوز أن يستعير مناهج الحضارات الأخرى ومعاييرها، لأن ذلك يشبه أن يعالج الطبيب مريضا معينا بدراسة ملف مريض آخر، أو في الحالة الإيجابية فإن الأمر يشبه أن تقوم أنت بشراء بيت على أساس مواصفات بيت آخر.