لأن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان، لذا فإنه ـ أي الله ـ أعرف ما يُصلح هذا الإنسان وما يُفسده، ويعرف أيضا ما هي مسببات السعادة له، وما هي داوعي الشقاء، ولهذا أنزل الله تعالى منهجا يضمن للإنسان بناء شخصيته بناء كاملا، إن اتبع ذلك المنهج الرباني الكامل، وهذا المنهج يتمثل في (الإيمان) الذي يمثل جوهر بناء الشخصية.
بنو اسرائيل كانوا من الأقوام التي شرفها الله ـ تعالى ـ بأن بعث منهم مئات الأنبياء، وفي سورة البقرة، يخاطبهم الله تعالى باتباع المنهج القويم (العهد) الذي فيه صلاحهم وقيام أودهم.
فماذا كان العهد الذي اوثقه الله مع بني اسرائيل؟
وهل كان هذا العهد خاص بهم؟
أم يشملنا ـ نحن ـ والبشرية أيضا؟
يتمثل عهد الله مع البشر هو هداه، وهدى الله هو الحاجة المطلوبة عند الناس في دنياهم وآخراهم، ويتجسد هذا العهد في المسؤوليات التي أناطها الله بالبشر، وبينها في كتابه المجيد ـ القرآن الكريم ـ ومن هذه المسؤوليات، ما ذكرته الآية الأربعون من سورة البقرة، {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.
المؤمن يخشى الله ولا يخش أحدا غيره، وهذا لا يعني أنه لا يخاف، لكنّه لا يعبأ من خوفه وخشيته، ولا يخضع لمن يرهبه، فيعالى على الارهاب بالثقة بالله، حيث أ، الله تعالى قد تجلى له، وعظُم مقام ربه في نفسه فصغُر ما سواه في عينه.
الإيمان بالحق كحق أنى كان، فرسالات الله التي نزلت على الانبياء كلها حق، ولا يمكن أن نؤمن ببضعها ونكفر بالآخر، فلا بد أن يكون إيمان كامل بهم، وإلا عند الإيمان بالبعض يعد كفرا كاملا. لأن مقياس الإيمان ومعياره أنه حق، فما دام الأساس هو الإيمان فما يفرق بين إيمان وآخر.
إن الإيمان بالله هو أعظم دافع للإنسان نحو التكامل الدنيوي والأخروي، ولهذا نرى الإيمان يدفع الإنسان الى الإحسان، الذي يشكل تجليا من تجليات الإيمان العملية والسلوكية
{وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ} في المقابل تأمرنا الآية باجتناب الكفر، ومعنى تجنب الكفر، تجنب دواعيه، ومن تلك الدواعي عند الإنسان هي العصبية والمصالح، ووساوس الشيطان، وهذه لا تعني شيئا عند الإنسان المؤمن، ولهذا يجب أن نضع نصب اعيننا الحق وندور معه حيث دار. ومن أجل أن نستقيم على الحق لابد أن نضرب مصالحنا الآنية والعاجلة عرض الجدار.
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، قد يلجأ البعض الى تزيين الباطل، حتى يوهم الناس أنه حقا، أما كتمان الحق هو اخفاؤه عن الناس، وهذا ـ على ما يبدو ـ ظلم للحق أكبر من تلبيسه، والتاريخ يعيد نفسه من ايام بني اسرائيل مرورا بالتاريخ النبوي، والى اليوم، لا يزال الحق مظلوما، وصاحبه أيضا مظلوم.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، الصلاة هي رمز العلاقة بين الانسان وربه، والصلاة الحقيقة هي التي تكون قربانا ومعراجا، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي الصلاة التي تربّي النفس وتهذيبها.
والصلاة لابد أن تقام بشروطها من خضوع وخشوع وتوجه، ولهذا حينما يقوم الإنسان الى الصلاة تجتمع على قلبه وساوس الشيطان، فما إن يطرد المصلي وسوسةً حتى تأتي أخرى، فالبعض يصلي ولايدرِ ماذا قال، وماذا قرأ. وكيف كان ركوعه وسجوده. ولذلك يكثيرالشك والسهو في الصلاة، لأن الشياطين يهجمون على قلب الانسان بكل الوساوس.
ولذلك حينما نبدأ بالوضوء والطهارة وإقامة الصلاة، الى أن نهييها، نحن في حرب، ولعل كلمة محراب الصلاة جاءت من كلمة ـ حرب ـ والتي تدل على المعركة، وتدور هذه المعركة مع النفس الأمارة بالسوء، مع الشياطين، لأنه من دون أن تنتصر على النفس، وعلى وساس الشيطان فيها، كيف نستطيع الاتصال بنورالرب. فالقلب المشحون بالعصبيات والأفكار الباطلة من الصعب عليه أن التعلق بالله.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} النفس البشرية شحيحة بذاتها، وإنما الإنسان يتطهر من هذا الشح بعطائه للآخرين، وهذا يكون عبر الزكاة، يقول الله تعالى مخاطبا نبيه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، أليس الركوع جزء من الصلاة؟
فلماذا ذُكر منفردا؟
قال المفسرون: “أن اليهود لم يكن لديهم ركوع في صلاتهم، ولذلك أمرهم الله بالركوع”، وربما لأن الركوع من اصعب الهيئات الصلاتية، ولعل ذلك ناب الركوع الواحد عن ركوعين، وعن سجدتين أيضا، ولذلك فهو ركن من أركان الصلاة، وتركه سهوا او عمدا يبطلها. ومن هذه الآية نستفيد بصيرة؛ هي أن على الانسان ان يكون مع الراكعين، اي مع التجمعات الايمانية التي من سمات اصحابها الصلاة.
-
الإيمان سلوك وعمل
يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدقه الأعمال”.
كثيرون هم ادعياء الإيمان لقلقة على الألسُن، لكن سلوكياتهم تشهد بخلاف ذلك، وهذا بحد ذاته يستوجب المقت والغضب من الله ـ تعالى ـ وهو القائل في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. ولهذا جاء عن الإمام الرضا عليه السلام: “الإيمان عقد بالقلب، ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح”.
إن الإيمان بالله هو أعظم دافع للإنسان نحو التكامل الدنيوي والأخروي، ولهذا نرى الإيمان يدفع الإنسان الى الإحسان، الذي يشكل تجليا من تجليات الإيمان العملية والسلوكية، ونجد أن آيات القرآن الكريم نعتت، على لسان الله تعالى نبي الله نوح عليه السلام بعد الإحسان بالإيمان لأنه أصل كل خير وفضيلة فقال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}، والمؤمن لا يتخوف من البذل والإنفاق للآخرين في سبيل ربه، لأنه يعلم بأن كل ما ينفقه سوف يعود عليه أضعافا مضاعفة ويزداد إحسانا كلما تعمق إيمانه بأن مستقبله في الدنيا والآخرة رهين عمله وتضحياته. إن السبيل إلى الإحسان، الذي هو الطريق إلى المكاسب الجسيمة، كالتي ظفر بها نوح عليه السلام، هو الإيمان بالله عز وجل وبجزائه الأوفى.
وكما الإحسان من تجليات الإيمان المؤدية الى تكامل الشخصية ونموها، كذلك فإن الصلاة والعبادة والدعاء ..، فالصلاة الحقيقية ـ على سبيل المثال ـ هي تمد المؤمن بزاد الإيمان الذي يحتاج إليه في كل شؤون الحياة، ومن اتخذها هزوا، أو عملها رياء فقد أفنى زاده وهلك، وهي التي ـ أي الصلاة الحقيقية ـ تحرر الإنسان من شح ذاته، فتكون يده سخية، ينصر المظلوم، ويعين المحروم، بينما الذي يرائي في صلاته يمنع أبسط الحقوق المفروضة عليه.
ما هو مطلوب؛ هو أن نجعل ايماننا إيماناً عمليا من خلال ممارستنا العبادية الصحيحة الخالصة لوجه الله تعالى، وأن تكون أخلاقنا هي أخلاق أنبياء الله وأوصيائهم، وهذا هو الطريق الى الكمال لمن أراد الوصول إليه.