-
مقدمة قرآنية
الحقيقة الواضحة لعلمائنا الأعلام، ومراجعنا الكرام ـ أدامهم الله ذخراً للمسلمين ـ أن القرآن الحكيم هو كتاب هداية قبل أي وصف آخر له، وهو بالتالي كتاب تربية ورعاية، أنزله الله تعالى على خير خلقه وخاتم رسله، صلى الله عليه وآله، ليصنع الإنسان التقي، والمجتمع النقي، والحضارة الإنسانية الراقية.
ولكن هذه الحقيقة ـ رغم وضوحها ونورها اللامع ـ تجدها خافية على الكثيرين من أبناء هذه الأمة المرحومة التي تفضَّل الله عليها بهذه الصحف النورانية التي جمعت كلام الله تعالى وخُلاصة كتب السماء إلى الأنبياء، عليه السلام، لتربية الإنسان تربية إلهية خاصة أطلق عليها (التقوى)، ولذا جعلها الله سبحانه معيار التفاضل عنده حيث قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. (الحجرات: 13).
وهي ليست معيار التفضيل والفضيلة عند الله سبحانه بل هي معيار لقبول الأعمال عنده، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. (المائدة: 27)، وكان ذلك على لسان سيدنا وعمنا هابيل، أول مظلوم وشهيد في هذه الدنيا، حيث سُفك دمه من أخيه لتقواه وتقبل الرب قربانه.
والتقوى مطلوبة على كل المستويات الفردية الخاصة، والأسرية الضيقة، والاجتماعية العامة، والإنسانية الواسعة، فالإنسان التقي هو الإنسان المسؤول عن تصرفاته، وعن كل ما هو حوله ضمن طاقته ووسعه، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}. (سورة التحريم: 6)، فأنت مطلوب منك أن تقي نفسك، ثم أهلك من النار، وهكذا تتسع المسؤولية كلما كبرت الدائرة التي يُعنى بها الشخص، وتكون هي رسالته في هذه الحياة.
على الشعب بمختلف فئاته أن يكون عوناً للمهتمين بالتعليم والتعلّم، وتذليل العقبات أمامهم، بدءاً من المسؤولين وصولاً إلى ذوي الطلبة وذلك بتشجيع أبنائهم بالاجتهاد في الدراسة، وتوفير كل وسائل التقدم لهم
-
التربية مسؤولية مشتركة
ومن هنا فإننا نشعر بمزيد من القلق تجاه هذه الأجيال الصغيرة، والشابة التي هي في مقتبل العمر حيث أنها تتعرَّض إلى موجة من التجهيل لم يسبق لها مثيل على طول الزمن الذي عشناه ورأيناه، وذلك لسببين أساسيين هما:
السبب الأول: جائحة كورونا (كوفيدا 19)؛ وهي جائحة حيَّرت العالم وأربكته في كل شيء وكان المتضرر الأكبر منها هي هذه الأجيال حيث أُقفلت المدارس بكل مستوياتها من الحضانة وحتى الجامعة في وجوههم وللعام الثاني، ولا نعرف إلى متى ستستمر هذه الحالة رغم كل التسابق في صناعة وتوزيع الدواء المضاد إلا أنه لا يزال غائماً ولا حقيقة له، ومتى يصل إلينا وما هي فاعليته، وكيف سيؤثر على المجتمع، وهل سيكون للأطفال نصيباً منه؟، كل ذلك في علم الغيب حتى هذه اللحظة وما نحن متيقنون منه أن هذا الفيروس المنحوس مازال يفتك في الناس وفي كل يوم يحصد الآلاف منهم على امتداد الكرة الأرضية، وأن المدارس مازالت مقفلة في وجوه طلابنا وأبنائنا الأعزاء للأسف الشديد.
السبب الثاني: الحضارة الرقمية؛ وهي نعمة من أكبر النعم والفتوحات العلمية لو أحسن الناس استخدامها، وذلك لأن العلم سلاح ذو حدَّين؛ وأكثر العالم استخدموه لجرح أرواحهم ونفوسهم لما فيه من مواقع تستهدف الإنسان لا سيما الشباب منهم لأنهم الأكثر تأثُّراً لرقة أرواحهم، وبساطة تجربتهم فاصطادتهم الحضارة الرقمية وألقت بهم في أتون من أتوناتها المحرقة لهم، كالتحلل الخُلقي، والمخدرات، والألعاب الإلكترونية، وهي أكثرها وأعظمها فتكاً؛ وهي ما أُجبرنا على السماح لهم به وإعطاءهم الأجهزة كالموبايل النقال الحديث، والتابلت، والكمبيوتر، وذلك لمتابعة دروسهم ومدارسهم فأُجبرنا على تفتيحهم على قضايا كانوا بغنى عنها إلى حين يقوى عودهم ويشتد ساعدهم ويستطيعوا أن يميِّزوا بين المفيد النافع، والضار الفاتك في أرواحهم وأنفسهم.
فهذه التحديات غزتنا في بيوتنا أكثر من قبل بما لا قياس أصلاً، وصارت تُحاربنا في أطفالنا الصغار وأبنائنا الكبار حتى صار الآباء والأمهات في حيصَ وبيص، وقلق شديد على فلذات أكبادهم، فتراهم قلقون عليهم ولا يستطيعوا أن يتركوهم دون مراقبة ومتابعة لحظية، وزاد قلقلهم على مستقبلهم لأنهم كانوا يعانون الأمرَّين معهم وهم يتابعون دروسهم وحضورهم في مدارسهم، فكيف بهم وهم يرونهم يلعبون في البيوت ووضعوا بين أيدهم أبشع وأشنع أدوات اللعب.
فكلنا كنا نعاني من أبنائنا في متابعة دروسهم في مدارسهم لكتابة الوظائف، وحل التمارين، والواجبات البيتية، فكانت الأمهات والآباء يدرسون أكثر من الطلاب لا سيما مَنْ مَنَّ الله عليه بعدد من الأبناء، فكيف بهؤلاء الكرام متابعة الدروس والعملية التعليمية لأبنائهم؟
حقيقة إنها لمعضلة نعيشها كلنا وكلٌ حسب أبنائه وأطفاله، ولذا كانت لفتة مهمة من العلماء الأعلام لا سيما مراجعنا الكرام حفظهم الله تعالى للتنبيه إلى ضرورة تضافر الجهود كلها في داخل البيت وخارجه، من الآباء والأمهات وكل المؤسسات التعليمية في الدول من أجل المحافظة على هذه الأجيال وأن تتضافر الجهود كلها من أجل العلم والتعليم ومواصلة العملية التعليمية وإلا فإننا سنعاني من فجوة كبيرة في السنوات القادمة وستزداد لدينا أعداد الأميين بشكل رهيب جداً.
فهي مسؤولية عظيمة على الجميع دون استثناء وكلٌ من مكانه وما يستطيعه من خدمة لهذه الأجيال لرفع مستواها العلمي ولا أقل من المحافظة على العملية التعليمية لتستمر في السنوات القادمة دون عناء وثغرة كبيرة، وفجوة يصعب إغلاقها وقد يستمر ذلك لسنوات طوال إذا ما أذن الله سبحانه بعطفه وكرمه بنهاية هذه الأزمة والخلاص من هذا الفيروس المنحوس.
المطلوب من جميع المعلمين والمتعلمين، عدم الاكتفاء بحشر المعلومات في أذهانهم، وإنما عليهم أن يسعوا لكي تسهم المعلومات في تطوّرهم باستيقاظ العقل والإبداع فيهم
-
همسة أبوية تربوية
ومن هنا كانت المحاضرة التربوية لسماحة المرجع السيد المدرسي (دام عزه) في كلمته الأسبوعية المتلفزة حيث توجَّه إلى هذه الناحية التربوية وهمس في آذان الجميع همسة أبوية تربوية، لا سيما الحكومة والمسؤولين عن العملية التربوية، فقال: “إن مجتمعاً لا يملك مؤسسات كافية للعلم والمعرفة، فإنه محكومٌ بالفشل وفقدان المستقبل، وعلينا أن نولي هذا الأمر إهتماماً بالغاً، لنتمكن من تجاوز التخلّف المتراكم في بلادنا على مرِّ السنين”.
فهي دعوة من سماحته أن تكون المؤسسات التربوية كافية لكل أبناء الأمة، وعلى امتدادها الطولي والعرضي حتى تكون المسألة التربوية كاملة، والعلمية متواصلة بين الأجيال، وأن تُغطي جميع القرى، والطبقات، وكل الأجيال من التحضيري وحتى التعليم الجامعي، وبذلك نضمن المستقبل المشرق للأمة وإلا فإننا سنعاني من التخلف والجهل أكثر مما مضى.
وأعطى سماحة المرجع المدرسي خارطة طريق للآباء والطلّاب جميعاً بما ينبغي عليهم لأداء حق العلم والتعليم والتَّعلم، وذلك بشكر الله على نعمه الكثيرة، وشكر الوالدين على تعبهم وتربيتهم، وشكر الأساتذة والمعلمين ومَنْ أوصل لهم العلم، وحثَّهم على أن يكون هدف الطالب مقدساً، بأن يهدف من تعلمه تحقيق مرضاة الرَّب سبحانه أولاً، ومصالح البلد والوطن ثانياً.
وختم سماحته كلمته الأسبوعية بتقديم جملةٍ من الوصايا للمعلمين والمتعلمين في مختلف المستويات الدراسية، وهي خُلاصة تجربة طويلة وغنية لسماحته في هذا الطريق الشاق:
الأولى: إخلاص النية لله سبحانه في التعليم والتعلّم، والمسألة من الله ليوفقه للإبتعاد عن الجهل والجهالة.
الثانية: أن يكون العلم وسيلةً لتزكية النفوس وتطهيرها من شوائب الشهوات والأنانيات، الذي من دونه سيكون العلم مضراً بالنسبة إليه والآخرين، داعياً الأساتذة إلى الاهتمام بأخلاق الطلاب.
الثالثة: المطلوب من جميع المعلمين والمتعلمين، عدم الاكتفاء بحشر المعلومات في أذهانهم، وإنما عليهم أن يسعوا لكي تسهم المعلومات في تطوّرهم باستيقاظ العقل والإبداع فيهم.
الرابعة: على الشعب بمختلف فئاته أن يكون عوناً للمهتمين بالتعليم والتعلّم، وتذليل العقبات أمامهم، بدءاً من المسؤولين وصولاً إلى ذوي الطلبة وذلك بتشجيع أبنائهم بالاجتهاد في الدراسة، وتوفير كل وسائل التقدم لهم”.
-
التربية مقرونة بالتعليم
ونلاحظ مما تقدم من هذه الوصايا التربوية والأبوية من سماحة السيد المرجع، قد قرنت التربية بالتعليم، ونادت بضرورة التزكية للنفس، وعدم الاكتفاء بضخ المعلومات في أذهان الطلاب حتى صار الأذكياء منهم يحفظون الكتب عن ظهر قلب فيكون لديه نسخة أخرى من كتب الوزارة ولكن على الأساتذة والمعلمين الكرام أن يسعوا إلى تحفيز الطلاب وتشجيعهم على التفكير وتعليمهم طرق التفكير الإبداعي في مختلف الجوانب العلمية والمعرفية.
فتطور الحياة وتقدمها مرهونا بالإبداع لا الإتباع، وبالفكر الخلَّاق لا بالفكر المتحجر والمنغلق على نفسه بحيث إذا خرجت من النص الوارد في الكتاب ترى الطلاب تدور أعينهم ويدوخوا في مقاعدهم وكأنهم رؤوا مسألة غريبة عليهم، وإذا كلفهم الأستاذ بحفظ آية أو بعض أبيات الشعر أو قاعدة من القواعد فإنهم يضجون ويستنكرون ويشتكون عليه لأنه يحمِّلهم أكثر من طاقتهم، وأذكر أنني طلبتُ من متخرج من الجامعة مسألة حسابية بسيطة فأخرج الآلة الحاسبة وأجراها فلتُ له: ألا تحفظ جدول الضرب؟ فقال: لماذا أحفظه هو وغيره ولماذا صنعوا لنا الآلة الحاسبة؟.
هذا من الناحية العلمية وأما من الناحية التربوية فإن الأمر أدهى وأمر لأننا مأمورون بالتزكية لأنفسنا وتطهيرها من أدرانها وعدم دسها في تراب المعاصي ـ العياذ بالله ـ لأن في التزكية يكون الإنسان إنساناً حقاً، وبها يتكامل في قيمه وفضائله وأخلاقه ليكون إنسان القيم الإسلامية، وليس مجرد إنسان يحمل شهادة، فالشهادة تُشير إلى أنك متعلم ولا تُشير إلى أنك إنسان فعلاً.
ولذا ترى سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) يُرجعنا في كل أمورنا إلى الله تعالى ليربطنا به برباط وثيق من الإيمان، والسعي الجاد إلى تزكية نفوسنا وتطهيرها من أجل أن نكون رسل محبة وسلام وتلك هي رسالة الإسلام القيمية في هذه الحياة.