هل هناك حتمية حضارية او تاريخية في الكون؟
هل التقدم الحضاري مختص بأمة معينة، وعلى باقي الأمم تجرع مرارة التخلف والتراجع؟
أم أن التقدم والتراجع الحضاريان مرهونان بأسباب وعوامل ذاتية؟
هنالك من يدعي أن للتاريخ مسارا واحدا يسير فيه، ويعتقد بضرورة السيرضمن هذا المسار، حيث إن الناس ضمنه مقيدون بحتميات تسيرهم نحو مصير واحد، ومن جهة أخرى هنالك من يدعي أن التاريخ والتقدم الحضاري وصل الى ذروته ونهايته، فما وصلت اليه البشرية اليوم من مدنية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وأنها ستبقى في هذه المدنية التي توفر لها الرفاه والسعادة، ولن تتراجع، فلا بديل عن هذه الحضارة الا نفسها.
في الحقيقة هنالك العديد من أشباه هذه النظريات او القراءات للتاريخ وللحضارات، والتي تقوم جميعها على مجموعة من المرتكزات الخاطئة، كالحتمية التاريخية، او القطب الواحد الحاكم، او التفضيل والتمييز العشوائي، او غير ذلك.
فالبعض يعتقد خاطئا أن التقدم محصور بفئة محددة دون أخرى، وأن هذه الفئة لها الحق في الانطلاق الحضاري، بينما على باقي البشر القبول بالتخلف الذي يعيشونه، بل عليهم أن يتحولوا الى عبيد لدى الفئة المتقدمة.
تُرى، هل إن ما قاله الكاتب الامريكي ( فرانيسيس فوكوياما) في كتابه ( نهاية التاريخ) من أن : “فوز الغرب في الحرب الباردة جاء ليشكل علامة مميزة وفارقة، جسدت بدورها وصول التطور البشري الى ذروة النضوج والاكتمال”.
أفعال البشر هي التي ترسم مساراتهم، سواء صعودا او انحدارا، ولذلك فإن الالتزام بالوعي والحكمة كفيل بإبعاد الناس عن الهلاك الذي يأتي نتيجة الظلم والعداون والطيغان والتجبر والتكبر في الحياة
هل كان الكلام صحيحا من الناحية الواقعية اليوم؟
أم أننا نرى حركة صاعدة ونازلة في مختلف المواقع، وتبدل وتحرك للأقطاب، ونمو حضاري في مكان وتراجع حضاري في مكان آخر، ولو كانت النظريات المطروحة كلها صحيحة لما ظهر من علماء ومفكري الغرب من ينتقدها.
فعلى سبيل المثال نرى أن الكاتب (روبرت و. ميري) في كتابة (رمال الامبراطورية) ينتقد وبشدة مثل هذه النظريات، ويرى أن التاريخ لايسير في خط مستقيم، بل يتبع مسارا حافلا بالانحناءات، والتعرجات بل والاستدارات، فلا المنتصر فيه سيظل منتصرا ومتفوقا، ولا المهزوم سيظل متخلفا مهزوما؟
***
نعود مرة اخرى الى السؤال الرئيسي:
هل إن التقدم قضاء وقدر بالنسبة الى البعض، والتخلف قضاء وقدر بالنسبة الى غيرهم؟
الجواب: بالطبع لا؛ فالناس على كل حال أحرار في مواقفهم وتصرفاتهم، والله تعالى قد وفر الموارد والامكانات للجميع، ولم يحرم أحدا منها: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}، فمن يسير ضمن السنن الإلهية فإنه يتقدم ويتطور، ومن يخالفها فإنه سيتراجع بلا شك، فالمزارع الذي يستفيد من النعم التي اعطاها ربنا له، من الارض والماء والبذورويعمل ويجتهد فإنه سيحصد الثمار اليانعة، أما من يملك الارض ولكنه يجلس في دراه وينتظر أن تعطيه الارض من نفسها الثمار فإنه بلا شك لن يحصل على شيء.
ومن رحمة الله تعالى بالبشر أنه جعل لهم مسار عودة وتراجع، فإذا أفسدوا ثم رجعوا عن فسادهم، فالله تعالى يغير طريقته معهم، فربنا يريد أن يتراجع الناس عن غيهم، وهو إذ يذيقهم بعض العذاب فما ذلك إلا لكي يرجعوا، يقول عز وجل: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
وإذا كان الحديث في هذه الآية المباركة عن أمم سابقة، فذلك لكي نتعرف على سنن الله تعالى في الحياة، كما أنها تحذير للأمم التي ستأتي من بعد، فمن رأى عاقبة الفساد لابد أن يبتعد عنه، ومن رأي عاقبة الظلم، لابد أن يتجنبه، فإن ما حدث للأمم السابقة سوف يحدث الآن وغدا: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}.
يجب على البشرية أن تقرأ التاريخ وتستخلص العِبر، وتتعرف على الأسباب والنتائج التي أدت الى سقوطها، وذلك من خلال الدراسة الجادة والفاحصة لقصص بعض الأمم، مثل قصة فرعون وبني اسرائيل، ذلك أن أهل مصر حينما بنوا ما بنموا وازدهرت احوالهم أخلدوا الى الارض، ومارسوا الظلم والعدوان، واصبح ذلك منهجا سياسيا واجتماعيا لهم، فقد أمر فرعون بذبح رجال بني اسرائيل، والابقاء على نسائهم، ولما بلغ الظلم نهايته قضى ربنا أن يزيل فرعون عن ملكه، ويرفع من شأن المستضعفين.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
صحيح أن الله عز وجل يُهلك الأمم أحيانا في لحظة واحدة، إلا أن ذلك لا يعني أن السقوط المفاجئ لم يكن نتيجة تراكم مجموعة من الأسباب والعوامل، من هنا رأينا كيف أن فرعون وآل فرعون تعاقبت عليهم المجاعات، ونزل عليهم الدم، وآذتهم كثرة القمل والضفادع، وأكل الجراد حرثهم، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}.
الفراعنة تقدموا حينما أخذوا بأسباب التقدم، وترجعوا بل وهلكوا، حينما لم يلتزموا بأسباب التقدم التي منها الإيمان بالله واتباع الأنبياء عليهم السلام
وهكذا فإن أفعال البشر هي التي ترسم مساراتهم، سواء صعودا او انحدارا، ولذلك فإن الالتزام بالوعي والحكمة كفيل بإبعاد الناس عن الهلاك الذي يأتي نتيجة الظلم والعداون والطيغان والتجبر والتكبر في الحياة.
إن الحضارات ليست ملكا لجماعة دون جماعة، وإن بقاء الحضارات ليس أبديا لقوم دون قوم، كما أن سقوطها ليس حتميا، فإذا غير الناس أحوالهم غير الله سنته فيهم.
من هنا نجد أن نفس بني اسرائيل الذين انقذهم الله باتباعهم لموسى بن عمران عليه السلام، ونصرهم على فرعون وآله، حينما دبّ الفساد فيهم أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم، فالله يورث الارض عباده الصالحين، لكن هذه الوراثة منوطة بسنة الاستقامة، وبالاعتقاد السليم والعمل الصالح، واتباع منهج السماء، والالتزام بالقيم والمُثًل التي أقام الله الكون عليها.
فالفراعنة تقدموا حينما أخذوا بأسباب التقدم، وترجعوا بل وهلكوا، حينما لم يلتزموا بأسباب التقدم التي منها الإيمان بالله واتباع الأنبياء عليهم السلام.
ثم إن بني اسرائيل أيضا حينما انحرفوا كانحراف الفراعنة سلبهم الله ملكهم، وأورث ذلك لغيرهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}.
وهكذا يمكن القول إن التاريخ صناعة الله تعالى، لكن على ايدي الناس، فإذا اتبع الناس ما اراد الله منهم، تقدموا في الحياة وحسنت معيشتهم، وإلا تخلفوا واصبحت معيشتهم ضنكا، لذلك فإن ربنا لا يذكر أمة اصيبت بالدمار والهلاك إلا ويذكر أسباب ذلك، مثل ارتكابهم للجرائم والفساد في الارض، وفسوقهم عن أمر ربهم وسقوطهم في الموبقات، كذلك تقدم الامم إنما هو بسبب التزامهم بأمر ربهم، فما يصيب الناس من حسنات او سيئات، أو فرح أو قرح، او سعادة او شقاء فبما كسبت ايديهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}.
وهنا ملاحظة هامة، وهي أن هلاك الأمم إنما يكون إذا ساد الطيغان والظلم والفساد في الأمة، فبمجرد أن يرتكب فرد واحد لجريمة من الجرائم لا يؤدي ذلك بالضرورة الى سقوط الأمة كلها، كما أن صلاح شخص واحد في أمة فاسدة، لا يؤدي الى رُقي تلك الأمة بالضرورة.
وهذا يعني ان ظلم الانسان لنفسه، من خلال فساده العقائدي او العملي أو الأخلاقي ليس مدعاة لهلاك الجميع ما دام مقتصرا على فرد أو مجموعة أفراد، بينما الأمة محتفظة بكيانها الصالح، وديمومية التزامها بالمبادئ والقيم، ولكن إذا تجاوز الظلم والفساد الى مستوى الامة، فإنها تبدأ بالتراجع حضاريا ومن ثم السقوط الى درك الذل والهوان وانتهاء دولتهم.
يقول ربنا عز وجل وهو يكشف عن هذه المعادلة عن قصة قوم نوح، عليه السلام: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}، فالله يهلك الامة عندما يكون أكثر أفرادها غير ملتزمين كما حدث لقوم نوح.
ويقول ربنا أيضا عن قوم ثمود وقوم صالح: {فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وهكذا فإن قيام الحضارات له جذوره في التاريخ، وسقوطها أيضا له جذوره في التاريخ، فالبدايات قد لا تكون مرئية، ولكن عندما تقوم الحضارة ويراها الناس حينها يُعلم أن هذه الامة كانت قد التزمت ببعض المبادئ والقيم والمُثُل، وكذلك سقوطها هو بسبب عدم الالتزام بما يمكن تسميته بالحق بمعناه الواسع والذي يعني الايمان والعمل الصالح، وحاكمية المبادئ والقيم والنظام الاجتماعي الصالح.
خلاصة الكلام: ليس هنالك حتمية تاريخية تفرض نفسها على البشر، كما أنه ليس هنالك من هو متقدم دائما ومن هو متخلف دائما، وإنما في الحياة دورات، وهذه الدورات تعتمد على عمل الناس وسعيهم.
————————————–
- مقتبس من كتاب اصول الحضارة بين روح القيم وبراعة التشكيل.