عندما يتعرض الإنسان الى صدمة قوية تفقده توازنه، يتحول الى شخص سوداوي الرؤية ينظر الى كل شيء من حوله بنظرة سلبية متشائمة، فإذا فَقد عزيزاً، كأن يفارق ابنه او أباه، أو احد اقربائه، فإنه يرى الدنيا مظلمة من حوله، وقد يتعرض الفرد الى خسارة مالية تجعله ايضا ينزوي عن الحياة، وكأن أبواب رحمة الله اُغلقت بوجهه الى الأبد، وقد يخفق البعض في عمل من الأعمال، فيظن أن هذا هو نهاية المطاف، جاهلاً او متجاهلاً بحقيقة أن ما وصلنا من التقدم الذي تزخر به البشرية اليوم، إنما هو نتاج لتراكمات إنسانية، فشلت مئات المرات، ونجحت لمرة واحدة.
الثقافة التي يحملها الفرد أيضا تجسَّد الشخصية السلوكية لصاحبه، فالإنسان الذي يحمل ثقافة سلبية تشاؤمية، تراه دائما في تذمر وتبرير لوضعه الدراسي او المهني، فإذاما قلت له: لماذا لم تكمل دراستك؟ يجيب: “وضع البلد خربان”! والعبارة الاخرى المتداولة: “ولماذا أتعب نفسي بالدراسة”؟!
“الانسان هو أفضل مخلوق خلقه الله -سبحانه وتعالى- ولكنه تبرمج بأسلوب حياة وإدراك وقيم واعتقادات سببت له هذا السلوك السلبي، لذلك فإن أكثر من تسعين بالمئة من سلوكياتنا تلقائية تحدث بدون تقييم أو أي تفكير منطقي، لأنها عادة تعودنا عليها واكتسبناها من العالم الخارجي”. (ابراهيم الفقي؛ قوة التفكير).
ولهذا نرى أن الثقافة السلبية التي يحملها الفرد، تكون نتاج لثقافة مجتمعية قائمة سائدة عند الكثير من ابناء المجتمع، والفرد الذي يحمل هذه الثقافة هو جزء منه، ومن الطبيعي أن يتأثر بالمجموع من حوله، لكنّ هذا التأثر ليس قضاء إلهي مبرم كما تقول القَدرية، وليس حتمية اجتماعية كما يأصل لها بعض علماء الاجتماع في العالم الغربي.
فالإنسان في الثقافة الإسلامية حرٌ ومختار في تصرفاته، فبامكانه أن ينقذ نفسه من مجتمعه السلبي الذي يعيش فيه، فالإنسان رهين أعماله، يقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}.
من الأمور التي تكرّس الروح الإيجابية حسب النظرة الدينية الى الحياة؛ أن الإنسان في هذه الدنيا لن يحصل على أي شيء بدون أي تعب أو جهد
-
التفكير يؤثر في النتائج
مما لا شك فيه أن النتائج سواء كانت سلبية أم ايجابية فهي نتاج لفكرة يحملها الإنسان في طيات ذاته، وتعيش بين احشاء افكاره، وهذا ما يطلق عليه؛ الثقافة، “التي هي مجموعة الرؤى والأفكار المؤثرة في حياة الإنسان والتي تحدد مسار سلوكه وطبيعة مواقفه”. (المرجع المدرسي؛ الاسلام ثقافة الحياة).
وإذا ما رجعنا الى حياتنا اليومية نجد تجليات هذا الكلام في مواقفنا وسلوكياتنا المختلفة، فإذا صنعتَ لنفسك فكرة متشائمة حول شخص من الأشخاص، أو رسمت تصورا خاطئا لديك عن عمل من الأعمال، فإن الفكرة تُتَرجم الى سلوك معين، وهذا أيضا عائد الى الثقافة التي يحملها الفرد.
“فإذا رأى الشخص أن النتائج التي يحصل عليها لا تساعده في التقدم في حياته، بل تسبب له متاعب نفسية ومادية، وأراد أن يحصل على نتائج أخرى إيجابية؛ يجب عليه أولا أن يُحدث التغيير في الفكرة الأساسية التي وضعها في ذهنه وكررها أكثر من مرة حتى اصبحت اعتقادا راسخا”.
يذكر الدكتور ابراهيم الفقي قصة معبِّرة عن شخصين؛ سمير ومنعم، وعن كيفية تأثير التفكير على السلوك، وخرجت النتائج بالقول: “بعد عشر سنوات من العمل والجهد في شركة من شركات التأمين قررت الإدارة دمج بعض الأقسام وذلك لخفص المصروفات الكبيرة التي أثرت على الشركة تأثيراً سلبيا، وبسبب هذا الدمج كان لابد من التخلص من بعض الموظفين، ومن بين الذين وقع عليهم الاختيار سليم ومنعم، وذلك بسبب مبيعاتهم المنخفضة.
إذا صنعتَ لنفسك فكرة متشائمة حول شخص من الأشخاص، أو رسمت تصورا خاطئا لديك عن عمل من الأعمال، فإن الفكرة تُتَرجم الى سلوك معين
وكانت الصدمة عنيفة للصديقين اللذين كانا يعتقدان أنهما من المتميزين في الشركة. وخرج الصديقان وهما في دهشة مما حدث لهما، ولكن سرعان ما بدأ سمير يفكر في الحل وقال لصديقه:
تأكد أن الله سبحانه وتعالى لن يتركنا أبداً، فالرزق بيده وحده لا تخف يا منعم، بل علينا من الغد أن نبحث عن عمل آخر، وكما وجدنا هذا العمل نستطيع بإذن الله أن نجد عملا غيره.
وكان صوت سمير مملوء بالثقة والأمل، ولكن منعم كان منهارا تماما، ورد على صديقه قائلاً:
أنت دائما تحلم يا سمير، كيف نجد عملا آخر الآن ألا تنظر من حولك؟ لا يوجد وظائف خالية والمنافسة على الوظائف قوية جدا أعتقد أننا لن نجد شيئا، ومن الأحسن أن نسافر الى أي بلد آخر.
ورجع الصديقان كل منهما الى منزله، وفي اليوم التالي بدأ سمير في البحث عن عمل ولم يجد ولكنه لم ييأس أبداً، ومر عليه أسبوع وهو يسمع نفس الجملة: “لا توجد وظائف شاغرة”، أو “اترك لنا سيرتك الذاتية وسوف نتصل بك لو جدَّ جديد”، وقرر سمير أن يتقبل أي عمل في أي تخصص آخر طالما أن هذا العمل لا يغضب الله سبحانه وتعالى.
وبالفعل وجد عملا كموظف بسيط في أحد البنوك وكان في منتهى السعادة، وكان كل يوم يتقدم أكثر ويتعلم أكثر حتى حصل على وظيفة أعلى وبمرتب أعلى، واستمر سمير في الكفاح متوكلا على الله -سبحانه وتعالى- حتى أصبح مديرا للفرع.
ومن ناحية أخرى لم يحاول منعم أن يبحث عن عمل وكان يعيش في الماضي وما حدث له، وكان دائم الشكوى، ويكرر نفس الجملة: “لقد طردوني ظلما”! وكانت حالته النفسية تسوء يوما بعد يوم حتى أصيب باكتئاب حاد مما سبب له شعورا بالوحدة والضياع لدرجة أنه حاول الانتحار أكثر من مرة، وأصبحت حياته سلسلة من الآلام والأمراض النفيسية، وأصبح زبونا مستديما عند الأطباء النفسيين والمستشفيات، وأصبح يخاف من كل شيء ويشك في الناس حتى أقربهم إليه، وكان يرفض أي تغيير حتى لو كان بسيطا فكان ينام لساعات طويلة، وعندما يستيقظ من النوم يجلس أمام التلفاز لساعات يشاهد أي شيء لكي لا يفكر في التغيير”! (ابراهيم الفقي؛ قوة التفكير).
الثقافة التي يحملها الفرد أيضا تجسَّد الشخصية السلوكية لصاحبه، فالإنسان الذي يحمل ثقافة سلبية تشاؤمية، تراه دائما في تذمر وتبرير لوضعه الدراسي او المهني، فإذاما قلت له: لماذا لم تكمل دراستك؟ يجيب: “وضع البلد خربان”!
-
كيف نخلق حياة ايجابية؟
مهما كانت الاحداث التي تواجه الإنسان في حياته، وتوقعه أرضا لبعض المرات، إلا أن بإمكانه ان ينهض من جديد، وهذا النهوض منوط بأن تكون لدى الفرد ثقافة ايجابية نحو الحياة، وهذا ما تصنعه الثقافة الإلهية الربانية، التي تجعل الإنسان ينظر الى كل شيء من حوله بإيجابية حتى نظرته الى نفسه.
“الثقافة القرآنية كفيلة بإخراج الإنسان من إتون السلبية والتشاؤم، الى نور الانشراح والايجابية، بحيث أن يجعل الإنسان يحب كل شيء من حوله، فعلاقته مع الطبيعة ايجابية، وعلاقته مع الآخرين قائمة على الحب والتعاون والتكامل”. (المرجع المدرسي؛ بينات قرآنية).
ومن الأمور التي تكرّس الروح الإيجابية حسب النظرة الدينية الى الحياة؛ أن الإنسان في هذه الدنيا لن يحصل على أي شيء بدون أي تعب أو جهد، يقول الإمام علي، عليه السلام: “لا أجر إلا بمشقة”، كذلك فإن الإنسان في هذه الحياة معرض لمطبات كثيرة مثله مثل غيره من الناس، وليس مستثنى من هذه السنّة الالهية (سنّة الابتلاء) التي تقتضي اختبار الناس جميعا، يقول الله –تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.