-
مقدمة تربوية
الله سبحانه وتعالى جعل هذا الإنسان اجتماعياً في الطبع، أي أنه لا يستطيع العيش مفرداً فلا بد من وجود اجتماع مهما كان بسيطاً كالأسرة الصغيرة، أو العائلة، تضمَّه في أحضانها وتُنمِّيه، وتُربيه، وتُربِّي فيه خصال الخير والفضيلة في كل زمان ومكان.
وهو في ذلك بحاجة إلى القدوة العليا له، والأسوة المثلى في حياته ليكون نظام التربية كاملاً من كلا جانبيه العلمي النظري، والعملي التطبيقي، فكان الأنبياء والرسل الكرام، والأوصياء والأولياء العظام هم القدوة التربوية له حيث قال سبحانه وتعالى عن خليله إبراهيم، عليه السلام: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. ( سورة الممتحنة: 4).
فإبراهيم كان قدوة والمؤمنون به كانوا أسوة في الخير والصلاح، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}. (الممتحنة: 6)، وبخصوص سيرة ومسيرة الرسول الخاتم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، قال ربنا سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. (الأحزاب: 21).
لم تنل السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم لقب العابدة والمقدسة إلا لكونها الفتاة العابدة المقدّسة المباركة المنقطعة والمتواصلة مع الله بحيث كانت في غاية الورع والتقوى والزهد والعفّة والطهارة، والقوّة والحقّ والغلبة والكمال مجتنبة الذلّ والخذلان
وقال أمير المؤمنين وسيد الوصيين في خطبة من روائعه في نهج البلاغة آمراً المؤمنين الاقتداء والتأسي برسولهم في قوله: “فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ (صلى الله عليه وآله9 فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا“. (نهج البلاغة: خ 160).
-
السيدة فاطمة المعصومة
والسيدة فاطمة المعصومة، عليها السلام فرع أصيل من تلك الدوحة الفاطمية العلوية المباركة، فهي ابنة الإمام السابع من أئمة المسلمين الإمام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام، المظلوم المسجون أسد بغداد الذي صبَّ الطاغية هارون الرشيد العباسي كل حقده عليه وحسده له رغم أنه هو كان السلطان الذي دانت له البلاد والعباد إلا أن القلوب والأرواح فقد دانت لموسى بن جعفر، فقال له يوماً: “أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم“. (ينابيع المودة؛ القندوزي ٣ : ١٢٠).
ويتجسد حسد هارون الرشيد للإمام الكاظم، عليه السلام في موقف له في المدينة المنورة حيث أتى قبر النبي، صلى الله عليه وآله زائراً له، وكان حوله من قريش وأفياء القبائل، والإمام موسى بن جعفر، حاضراً، فلما انتهى إلى القبر قال هارون: “السلام عليك يا رسول الله يا بن عمي”، افتخاراً على مَنْ حوله، فدنا الإمام موسى بن جعف عليهما السلام فقال: “السلام عليك، يا أبة؛ أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدى بك أن يصلي عليك“، فتغيَّر وجه هارون وتبيَّن فيه الغضب، وقال معترفاً: “هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً”، والحقيقة أنه لم يحتملها هارون، فلم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه وسجنه فأطال سجنه فلم يخرج إلاّ ميتاً مقيداً مسموماً”. (تاريخ بغداد ١٣ : ٣١).
فالسيدة فاطمة المعصومة هي بنت هذا العظيم الذي افتخر على هارون الرشيد أمام قبر جده رسول الله، صلى الله عليه وآله، ولم يُنكر عليه بل أقرَّه وحسده وحقد عليه فأرسل جلاوزته فاختطفه من بين أهله الكرام وراح يتنقل به من سجن إلى سجن، ومن مطمورة إلى أخرى حتى انتهي به الأمر إلى سجن السندي بن شاهك، فأمره بسمِّ الإمام غريباً بعيداً عن أهله وعياله في المدينة المنورة، التي تصدَّى لشؤونهم ولده الحكيم، وخليفته الكريم، الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام، فكان يجلس في المسجد النبوي الشريف ويُعلم الناس ويُفتيهم في شؤون دينهم ولما يبلغ العشرين من عمره الشريف.
ومما تصدَّى له، عليه السلام تربية ورعاية إخوته الذين تميَّز بكثرتهم والده المظلوم الإمام موسى الكاظم، حيث أنه ورغم طول فترة سجنه كان أكثر الأئمة نسلاً، فيذكر العلماء كالشيخ الطبرسي يقول: “كان له سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى”، (الذكور ۱۸، والإناث ۱۹)، وقيل: ثمانية وثلاثون؛ الذكور ۲۰، والإناث ۱۸)، وقيل غير ذلك، ولكن من المسلَّم به أنه أكثرهم نسلاً وذريةً، وكان نجمهم المُعلَّى، وسيِّدهم المعظَّم الإمام الثامن علي بن موسى الرضا الذي كان آية كُبرى من آيات الجمال والكمال في العلم والعمل، حتى سُمِّي ب(عالم آل محمد)، حيث قام بمهمته خير قيام، ومن أخواته الكريمات التي يصل عددهن إلى العشرين كانت شقيقته السيدة فاطمة البارزة والمقدَّمة عليهن جميعهن في العلم، والفضل، والعمل، فعُرفت من بينهن بالعالمة، والراوية، والمحدِّثة، فكانت من العالمات المحدّثات اللاتي اختصهنّ الله تعالى بالعقل والرَّشاد والإيمان والثبات، والعزيمة والفداء والتضحية في سبيل الله، فلدينا سلسلة الفواطم كما لدينا السلسلة الذهبية في الرجال.
مما يدلل على مكانة السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم، عليه السلام، العلمية عند أهل البيت الحادثة التاريخية التي يرويها السيّد نصر الله المستنبط عن كتاب كشف اللآلي لابن العرندس الحلّي: أنّ جمعاً من الشيعة دخلوا المدينة يحملون بحوزتهم عدّة من الأسئلة المكتوبة قاصدين أحداً من أهل البيت، عليهم السلام، وصادف أنّ الإمام موسى بن جعفر، كان في سفر والإمام الرضا،عليه السلام، كان خارج المدينة، وحينما عزموا على الرحيل ومغادرة المدينة تأثّروا وأصابهم الغمّ لعدم ملاقاتهم الإمام، وعودتهم إلى وطنهم وأيديهم خالية.. ولمّا شاهدت السيّدة المعصومة غمّ هؤلاء وتأثّرهم – وهي لم تكن قد وصلت إلى سنّ البلوغ آنذاك- قامت بكتابة الأجوبة على أسئلتهم وقدّمتها لهم، وغادر أولئك الشيعة المدينة فرحين مسرورين والتقوا بالإمام الكاظم خارج المدينة، فقصّوا على الإمام ما جرى معهم وأروه ما كتبته السيّدة المعصومة،سلام الله عليها، فسُرّ الإمام، عليه السلام، بذلك وقال: (فداها أبوها). (كريمة أهل البيت (ع): ص 170).
فقد لُقبت السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم بألقاب كثيرة منها: العالمة، والراوية، والمحدّثة، والشفيعة، والعابدة، والمقدسة، وأشهر ألقابها: المعصومة، وكريمة أهل البيت عليهم السلام.
-
السيدة المعصومة القدوة
يقول أحد الأعلام: “لم تنل السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم لقب العابدة والمقدسة إلا لكونها الفتاة العابدة المقدّسة المباركة المنقطعة والمتواصلة مع الله بحيث كانت في غاية الورع والتقوى والزهد والعفّة والطهارة، والقوّة والحقّ والغلبة والكمال مجتنبة الذلّ والخذلان، والخوف والاستسلام فأصبحت نسخة مصغرة من أبيها الإمام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام الملقب براهب آل محمد”.
ألا يجدر بنسائنا وبناتنا في هذا العصر الذي توفرت فيه وسائل العلم والتعلم أن يتخذن من هذه السيدة الجليلة التي عاشت في عصر الظلم والظلام العباسي، والقهر بحيث أن بنات الإمام موسى الكاظم، عليه السلام يُصلين في ثوب واحد لأنهن ليس لديهن ثوب غيره، وخمس الأرض حقاً مشروعاً لهم كما نعرف
فلم تكن تلك الفتاة لتلتهي بالدنيا واللعب فيها كما تفعل البنات والنساء عادة، أو اللهو في بيت أبيها وفي رعاية أخيها الشقيق علي الرضا، عليه السلام بل كانت تلك الفتاة المؤمنة المسؤولة التي تبحث عن العلم وتتفقه في الدِّين وتُعلِّم النساء أحكامهن كما كانت تفعل جدتها فاطمة الزهراء، عليها السلام سيدة نساء العالمين، التي جعلها الله مقياساً ونبراساً للنساء جميعاً، فالحياة لها قيمة وهي مسؤولية وليست للهو واللعب وتقضية الوقت بالأشر والبطر وزهرة الحياة الدنيا.
ألا يجدر بنسائنا وبناتنا في هذا العصر الذي توفرت فيه وسائل العلم والتعلم أن يتخذن من هذه السيدة الجليلة التي عاشت في عصر الظلم والظلام العباسي، والقهر بحيث أن بنات الإمام موسى الكاظم، عليه السلام يُصلين في ثوب واحد لأنهن ليس لديهن ثوب غيره، وخمس الأرض حقاً مشروعاً لهم كما نعرف، ورغم كل تلك الظروف الضاغطة عليها إلا أنها كانت آية في الذكاء والفطنة وحب العلم والتعلم، والجهاد في سبيل رفع السوية الفكرية للمجتمع الإسلامي.
ولهذا جاءت تسميتها بـ(المعصومة)، فقد عصمت نفسها بنفسها لأنه ليس هناك معصومة من النساء إلا أمها فاطمة الزهراء، وهي الوحيدة من نساء المسلمين، وأهل البيت التي لُقِّبت بهذا اللقب الشريف العظيم، حتى أن عمَّتها السيدة زينب الكبرى، لم تنله بعظمتها ومكانتها في دنيا الطهارة والنزاهة والعفة والشرف، مع ما كانت فيه من العلم والفقه والتقى، بحيث يشهد لها ابن أخيها الإمام المعصوم بقوله: “أنتِ بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهّمة“، ولم يُطلق عليها لقب وصفة المعصومة.
فالسيدة فاطمة المعصومة عليها السلام كانت تمثل الشّخصيّة النّسائيّة المثالية والمقدَّسة في الإسلام لدى المسلمين كلّهم، فإذا قرأنا ما كتبه علماء المسلمين من السنّة والشّيعة، نجد أنهم يتحدَّثون عنها بكلّ تعظيم واحترام ومحبّة، من خلال عناصر شخصيّتها المميّزة، من العفاف والطهارة الشخصية والروحية التي قلَّ نظيرها في نساء العالمين إلا من أمهاتها الكريمات.
آلاف التحية والسلام عليها، في يوم شهادتها المفجعة، وعظم الله أجركم يا مؤمنين.