عندما يهتم الانسان بالحقائق الكبرى، تتضاءل عنده الامور الثانوية، يقول الإمام علي عليه السلام: “عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ”، فيكف يستطيع الإنسان من غير الدعاء أن يشرح صدره؟
عندما يمر الإنسان بوضع صعب، فإن عليه أن يقيس هذه الحالة الصعبة بأهدافه، فهل الهدف الذي تمشي من أجله يستحق هذا الوضع الصعب أم لا؟
فقد تتأخر عن العودة الى البيت، وينتاب القلق الشديد زوجتك وأطفالك، فهل هذا التأخير يستحق لذلك الهدف الذي تأخرت من أجله؟
ولهذا فإن على الإنسان ان يستسهل الأمور، لتكون سهلة عليه، أما اذا استصعبها، فستكون حجر عثرة في طريقه.فالإنسان صاحب الإرتباطات الكثيرة، يصعب عليه النجاة، ويصعب عليه العمل للتكامل في هذه الحياة، يقول الشاعر:
ألقى الصحيفةَ كي يُخفّفَ رَحْلَهُ
والزادَ حتّى نَعْلَهُ ألقاها
فالإنسان عندما يريد أن يحقق الأهداف الكبيرة، لا بد أن يقلل من علاقاته وارتباطاته المختلفة التي قد تشكل عائقا أمامه. صحيح أن هناك استثناءات في امتداد العلاقات حسب موقعية الشخص، لكن يبقى أن الارتباطات الكثيرة قيد يغل الإنسان عن الأهداف الكبيرة، والأعمال الصالحة.
إذا تأملنا في السياقات القرآنية، فإن القرآن الكريم يبين لنا الحقائق الكبرى، وفي نفس الوقت يبين لنا تجليات تلك الحقائق في في سلوك ومواقف الإنسان نفسه
عندما اجتاحت السيول منطقة المدائن التي كان سلمان الفارسي، رضوان الله عليه، حاكما عليها، اخذ مطهرته وصعد على التل وقال: “فاز المخفون”. {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} صحيح ان هذه الآية مختصة بالنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، لكن آيات القرآن لا تتوقف في زمن معين، بل تبقى رافد يستفيد منها المؤمن في كل عصر ومصر.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، الله سبحانه ينصر عباده الصالحين ويوفقهم، بأن يلقي في قلوبهم مودته، وفي قلوب الناس هيبته، وقد جاء في معنى احدى الروايات: أن الله إذا أحب عبد ألقى في قلوب الملائكته محبته.
وذكر رسول الله، صلى الله عليه وآله، هو أكثر ذكر، بعد الله تعالى في التاريخ كله، فنحن في الأذآن نذكره يوميا خمس مرات، وملايين الأشخاص يذكرونه في مختلف بقاع العالم، وأحد الكتاب الغربيين حين كتب عن الشخصيات العظيمة في التاريخ، جعل معاييرا في كتابه، منها أخلاقه وتأثيره في المجتمع، فحدد مئة شخص، ومن المئة انتخب عشرة أشخاص، ومن هؤلاء العشرة اختار النبي محمد، صلى الله عليه وآله.
و إذا تأملنا في السياقات القرآنية، فإن القرآن الكريم يبين لنا الحقائق الكبرى، وفي نفس الوقت يبين لنا تجليات تلك الحقائق في في سلوك ومواقف الإنسان نفسه، ولذلك فإن القرآن يقول بعد الآية السابقة: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}، فرسول الله، صلى الله عليه وآله، واجه صعوبات كثيرة في مسيرته الرسالية، كذلك فإن الإنسان المؤمن المتبع لنهج النبي الأكرم، سيجد في حياته صعبة جدا.
الإنسان المؤمن عندما ينتهي من عمل، فإنه ينصب الى عمل آخر، وانجازه للعمل السابق لا يدعوه الى الدعة والراحة، ولهذا لابد من وضع جدول يومي لإنجاز مختلف الأعمال، لا أن يترك الحبل على الغارب
ولكن الله تعالى يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}، وفي هذه الآية أبعاد مختلفة:
البعد الأول: الله تعالى حيمنا خلق الخلق، خلقه بصلاح، لأنه تعالى يقول: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، ويقول أيضا: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}، وخلق كل شيء بأحسن تقويم، وبأفضل ما يكون، فالصلاح إذن هو سنّة الله في أرضه، وهو جوهر الخلق، وهو يدخل في كل شيء خلقه الله تعالى. وأما الفساد فهو شيء طارئ وشاذ، وكل شيء خلاف الصلاح فهو شاذ، ولأنه كذلك فإنه يتلاشى وينتهي.
ولماذا جاء التأكيد مرة ثانية: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}، لأن العسر قبله وبعده يسر، وجاء في حديث: “لايغلب عسرٌ يسرين”، فالإنسان قبل المرض كان متعافٍ، وبعد أيضا يتعافى.
البعد الثاني: هذه الآية تعطينا الرؤية الإيجابية عن الحياة، فالإنسان المؤمن لا ينظر الى الحياة نظرة سلبية، ومما يؤسف له ان النظر السلبية تجاه االحياة تكاد تكون ثقافة مجتمعية، وإلا فإن الدنيا ايجابية من حول الإنسان، فالثقافة هي التي تجعل النظرة سلبية أو إيجابية. كان نبي الله عيسى، عليه السلام، يمشي مع الحواريين، فمروا على خنزير ميت نتن الرائحة، فكان كل واحد يتأفف من هذه الحالة، لكن عيسى، قال: لكنّي أرى اسنانه البيض. واليسر لا يأتي الى الإنسان على طبق من ذهب، وإنما يأتي ببذل الجهد والعمل، والنظرة الإيجابية.
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}، فالإنسان المؤمن عندما ينتهي من عمل، فإنه ينصب الى عمل آخر، وانجازه للعمل السابق لا يدعوه الى الدعة والراحة، ولهذا لابد من وضع جدول يومي لإنجاز مختلف الأعمال، لا أن يترك الحبل على الغارب. فإذا كان لديك موعد مع طبيب في الساعة الفلانية، لكن الطبيب تأخر لسبب من الأسباب، فما هي الخطة البديلة؟
ولهذا فإن الإنسان المخطِط يستفيد من وقته، ولديه البرامج البديلة والمترادفة، لملئ تلك الساعة التي كان قد من المفترض أن تكون موعدا مع الطبيب.
{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، ولأن الإنسان المؤمن صاحب أهداف كبيرة في أولها مرضاة الرب تعالى، وهي أغلى شيء وأعظمه، وليس كل الناس توفق الى رضا الله تعالى. ولهذا فإن المؤمن دائم الرغبة الى الله تعالى، ويتقرب إليه بكل عمل سواء كان كبيرا أم صغيرا، تجسيدا للآية الكريمة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه}. وأيضا تجسيدا للآية الكريمة التي جاء على لسان نبي الله عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ}.
————————————————-
- مقتبس من محاضرة للمرجع المدرسي بتاريخ 11 ـ 8 ـ 2020.