-
مقدمة تدبُّرية
الأحداث تتابع، والأيام تجري مع الشمس، وتتقلب كتقلُّب الليل والنهار، ذلك هو التاريخ، الذي هو عبارة عن حركة الشعوب والأقوام والأمم في الزمان والمكان وتتابع الأحداث، ولكن هل هذا الذي نسميه تاريخاً له قوانين تحكم مسيرته، وتضبط حركته، وترسم خطوطه العريضة في الحياة؟
يقول سماحة المرجع المفكر السيد المدرسي (دام عزه) في دروسه الأخيرة: “أريدكم أن تقرؤوا التاريخ، لأن التاريخ حقيقة واحدة تتكرر بأسماء مختلفة وأشخاص مختلفين“، ثم يضرب بعض الأمثلة التي نراها ونسمعها في هذا المعترك الحضاري في عصر الحضارة الرقمية، لا سيما في الإمبراطورية المتهالكة والمتداعية من أساسها والتي سيكون هلاكها واندثارها من داخلها ومن قادتها وسادتها فبأيديهم يحفرون قبورهم وقبور حضارتهم، كما جرى في الأمس القريب من تسعينات القرن الماضي حيث تساقطت الإمبراطورية السوفييتية بشكل عجيب غريب خلال أيام على أيدي قادتها أنفسهم، واليوم نرى هذه المخاضات في الإمبراطورية الأقوى في التاريخ ـ كما يُصنفوها ـ إمبراطورية الشَّر المطلق، والشيطان الأكبر كما سماها الإمام الخميني (رحمه الله).
ولكن سقوطها لن يكون كسقوط الاتحاد السوفييتي على ما يبدوا بل سيكون كارثياً ومدمراً عالمياً وذلك لأن الذي يقوده الآن أشبه بمجنون، أو مهووس، فهو كفرعون بالقوة والسطوة، وكقارون بالمال والثروة، فهو مصاب بجنون العظمة بسبب القوة، والثروة، وهذا من أخطر الأمراض التي يمكن أن تُصيب الحُكام والطغاة، لاحتمال أن يصل شرَّهم إلى كل مَنْ هم حولهم، وبما أننا في قرية إلكترونية صغيرة فهو يكون خطراً على الكرة الأرضية بكل عالمها وشعوبها.
-
سُنن التاريخ البشري
فالتاريخ له سُنن وقوانين تحكمه، وأيدي وأقلام تخطه ليقرأه الأجيال القادمة من رحم الزمن، ولكن هل سيُبقي أحداً هذا المغرور الذي يقول ويعتقد: إما أنا أو الطوفان، والدَّمار، وحرق العالم، كما فعل نيرون في روما قديماً، وهتلر في العالم منتصف القرن الماضي، وكل ذلك ليس جديداً بل فعل نمرود الذي كان يحكم العالم في عصره أكثر من ذلك، ولكن لم يستطع على شاب فتى اسمه (إبراهيم)، وفعله فرعون مصر الذي كان يقول (أنا ربكم الأعلى)، ولكن أذله الله وأخزاه على يدي الفتى الذي ربَّاه في حجره وبيته موسى بن عمران، عليه السلام فبلعه الماء ثم لفظه بكل أُبهته ليكون عِبرة للعالمين، والطغاة من بعده، ولكن هل اعتبر مَنْ جاء بعده به، أم أن كل طاغية يأتي يقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، فأنا الأعلم والأخبر والأجدر وكل الماضين لا يفهمون وأنا الذي أفهم، فيأتيه أجله ويطويه الزمان ويتحدث عنه التاريخ والمؤرخون فأين المعتبرون؟
-
القرآن الحكيم وسُنن التاريخ
الإنسان هذا المخلوق المكرَّم، والمفضَّل، والمعظَّم على خالقه وبارئه ورازقه، جعله الله محور الكون وعلَّة الحياة بما وهب له من مواهب تُؤهله لذلك كله، والقرآن الحكيم هو كتاب الله الجامع لكل كُتب السماء ومناهج الرَّب سبحانه وتعالى لتربية الإنسان الفرد، والأسرة، والمجتمع، والإنسانية جمعاء على قيم وفضائل السماء.
وفي القرآن الحكيم قصصاً للأنبياء الكرام، والرُّسل العظام، عليهم السلام، يقصها لنا سبحانه بأجمل أسلوب وأحسن طريقة، وهذه قصة نبي الله يوسف، عليه السلام، وهي القصة الوحيدة التي جاءت في سياق واحد، وسورة واحدة وكأنها لوحة أدبية من أجمل قصص التاريخ، قال تعالى في بدايتها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}. (يوسف: 3)، ولكن هذه القصص ليست للتسلية ـ حاشا لله ـ بل هي دروس للحياة والأحياء، قال سبحانه بنفس السياق القرآني الراقي، ولكن في نهايتها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. (يوسف: 111).
الظاهرة الفرعونية اليوم تأذن بخراب العالم إذا تُرك فرعونها على هواه ولم يُؤخذ على يديه فالعالم كله يضع يده على رأسه خوفاً من تهوره وغروره وتكبره
فالقصص التاريخية في القرآن الحكيم هي لإعطائنا الخطوط العامة الحاكمة لحركة التاريخ البشري وهي السُّنن الجارية في المجتمعات البشرية منذ بدايتها وترافقت معها وزادت تعقيداً بتطورها وتعقيدها إلى أن وصلت في عصر الثورة الرقمية والحضارة التكنولوجية العملاقة التي نشهدها في هذا العصر الذي تعملَق فيه كل شيء وتقزَّمت فيه القيم الروحية والفضائل الإنسانية فظهرت الحضارة الرقمية بوجهها الحقيقي من حيث التوحش بكل ميادين الحياة.
فالسِّمة الظاهرة من هذه الحضارة هي أنها كانت تُظهر الوجه الراقي لها من حيث جمع العالم وكل الشعوب والأمم الذين يعيشون في هذا العصر على هذه الكرة الترابية في سياق واحد حتى قالوا: “أنهم جعلوها قرية إلكترونية صغيرة يديرونها ويتحكمون فيها من غرف نومهم”، وإن كان هذا صحيحاً بحد ذاته إلا أنه أظهر قوى الاستكبار والطغيان على حقيقتهم الإجرامية البشعة.
-
الظاهرة الفرعونية
والقرآن الحكيم يتحدث لنا عن فرعون، ويُقدمه لنا كظاهرة من ظواهر الطغيان والتكبر والتجبر حتى يصل به الحال إلى أن يقول عظيماً، ويدَّعي كذباً ما ليس له ولا لغيره من البشر، حيث قال: {أنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى}. (النَّازعات:24).
ومن سُنن التاريخ أن كل صاحب قوة، وسلطة، وجاه، إذا توفرت له الظروف المناسبة، والأعوان من المطبلين والمزمرين والمنافقين يسير على هذه السُّنة السيئة ليقول ما قاله فرعون، ولذا جاء في الحديث الشريف: “كل إنسان يُضمر ما أظهره فرعون“، وهذه هي صفة التَّكبر والتجبُّر التي تحّكم بها فرعون على الناس عامة، وعلى بني إسرائيل خاصة، ومن خلالها استعبدهم، واستذلهم، وأخضعهم لطغيانه، وراح يعيث في الأرض فساداً وإفساداً.
وهذا ما نراه اليوم في إمبراطورية الشر العالمية حيث يعيش العالم بترقب شديد وتعجب من هذا الطاغية الذي يعيش نوعاً من جنون العظمة والقوة، ويُريد أن يفرض نفسه على بلده خاصة وعلى العالم عامة، كما يقول سماحة السيد المرجع (دام عزه): “لأنه أنا قوي أقول وأفعل ما أريد وهذا نفس منطق فرعون”، فتراه ألغى جهود الشعوب والأمم لقرن من الزمن في اتفاقيات عالمية ضرب بها كلها الجدار وداس عليها بأقدامه كما فعل معاوية بن هند من قبل.
وهذا ما أظهرته سياسات الولايات المتحدة في فترته المضطربة إزاء بعض المعاهدات والمنظمات الدولية الهامة والتي أضرَّت كثيراً بجهود التعاون الدولي، “إذ هددت الولايات المتحدة بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، وانسحابها من اتفاقية باريس للمناخ، وإيقافها الدَّعم عن منظمة الصحة العالمية، واتهامها بالانحياز إلى الصين بشأن ظهور وانتشار جائحة كوفيد-19، كما أوغلت إجحافاً في سياسات وحروب اقتصادية إزاء الصين، وما تمخض عنها من تواجد مكثف للقوات البحرية الأمريكية في بحر الصين، والتي كانت تنذر بوقوع احتكاك عسكري بين القوات العسكرية البحرية للطرفين في أية لحظة، وتحت أية ذريعة أو مبرر كان، قد يعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر الجسيم، ويؤدي إلى اختلال في موازين النظام الدولي القائم برمته”.
هذا عدا عن السياسات الظالمة والمجحفة تجاه المنطقة العربية والشرق الأوسط بالخصوص حيث فرضت، ونشرت الحروب الأهلية في كل بلد لا يخضع لسلطانها ويدفع لها مدخراتها ونفطها وغازها كما في سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا وغيرها من الدول، مع هذه الحرب الاقتصادية التي لم يشهدها التاريخ بهذه الشدة والقسوة على الشعوب المسلمة لا سيما في سوريا، والعراق، وإيران، فحرب اللقمة والجوع لإخضاع الشعوب هي من أبشع وأشنع الحروب اللاإنسانية إذ أنه لا يجوع ويعرى ويموت جوعاً إلا الفقراء والبسطاء والمرضى، فهذه الحرب الظالمة موجهة إليهم بالخصوص، وهي بلا رحمة ولا إنسانية بالمطلق.
-
السياسات الفرعونية
فالدارس للقرآن الحكيم وقصصه الرائعة يجد أن هذه الظاهرة الفرعونية استغرقت الكثير منها لأنها هي أكبر قصة في القرآن الحكيم، قصة موسى، عليه السلام وفرعون، ولذا فهي تستحق الدراسة المعمقة لاكتشاف تلك السُّنن التاريخية في الظاهرة الفرعونية وتطبيقاتها في عصرنا الحاضر، لأننا عند ذلك نعرف ما هي أنجع الطرق والأساليب التي اتبعها نبي الله موسى، في مواجهتها ثم الانتصار عليها وتدميرها وغرق فرعون في نهايتها، وكيف تجددت في حياتهم فيما بعد؟
فالظاهرة الفرعونية اليوم تأذن بخراب العالم إذا تُرك فرعونها على هواه ولم يُؤخذ على يديه فالعالم كله يضع يده على رأسه خوفاً من تهوره وغروره وتكبره، لأنهم يتوقعون أن يفعل أي شيء فيما تبقى له من أيام في الحكم لإطالة واستمرار حكمه كافتعال حرب هنا أو هناك، والعيون على منطقتنا في الشرق الأوسط التي أنهكها الحرب والجوع معاً، مع هذا الفيروس اللعين (كوفيدا 19)، فهي مرشحة لتكون ساحة حرب جديدة، لأننا نستبعد أن يتورَّط هذا المغرور بحرب مع الصين لأنها ستكون عالمية ونووية وستحرق الأخضر واليابس، وربما لأول مرة ستكون حرب كونية مدمرة للحضارة بالفعل.
فالأيام القادمة ستكون حاسمة في تاريخ هذا الفرعون، فهل سيقبل بالواقع الذي فرضه عليه شعبه أو أنه سيكون هو الذي سيفرض على شعبه وعلى شعوب كثيرة ما يُغيِّر المعادلات ويُربك العالم من جديد لا قدَّر الله، أو أن القانون الأمريكي، والعقل الحاكم فيها سيكبح جماحه، ويحدُّ من غطرسته وطغيانه؟ وهذا ما نُرجِّحه ونأمله من الله فلسنا بحاجة إلى الحرب بل نحن بأمسِّ الحاجة إلى الرَّحمة والحنان والحب.