-
مقدمة معرفية
المعرفة هي أصل المعارف بعد التوحيد بل هي شرط من شروط قبول التوحيد كما ورد في القصة المشهورة عن الإمام الثامن من أئمة المسلمين علي بن موسى الرضا في حديثه الذهبي، الذي روي عن إسحاق بن راهويه قال: لمّا وافى أبو الحسن الرضا عليه السلام بنيسابور وأراد أن يخرج منها إلى المأمون اجتمع إليه أصحاب الحديث، فقالوا له: يا ابن رسول الله ترحل عنّا، ولا تحدثنا بحديث، فنستفيده منك! وكان قد قعد في العَمَارية، فأطلع رأسه، وقال: “سمعتُ أبي موسى بن جعفر، يقول: سمعتُ أبي جعفر بن محمد، يقول: سمعتُ أبي محمد بن علي، يقول: سمعتُ أبي علي بن الحسين، يقول: سمعتُ أبي الحسين بن علي بن أبي طالب، يقول: سمعتُ أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، يقول: سمعتُ رسول الله، يقول: سمعتُ جبرئيل يقول: سمعتُ الله جلّ جلاله يقول: (لا إله إلا الله حصني فمَنْ دخل حصني أمِنَ من عذابي)، قال الرواي: فلمّا مرّت الراحلة نادانا: (بشروطها وأنا من شروطها). (عيون الأخبار: 2 – 134).
فمعرفة الإمام والولي شرط في قبول ومعرفة الله سبحانه وتعالى وهذا ما جاء في العديد من الروايات عن أهل بيت العصمة والطهارة، كقول الإمام الباقر عليه السلام: “بُني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودي بالولاية“.
قال زرارة: فقلتُ: وأيُّ شيء من ذلك أفضل؟ فقال: “الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدَّليل عليهن“، فالولاية مفتاح الدخول، وباب القبول لأي عمل يُراد التقرب فيه إلى الله تعالى ولهذا وصفها الإمام الرِّضا، عليه السلام بقوله: “إِنَّ اَلْإِمَامَةَ زِمَامُ اَلدِّينِ، وَنِظَامُ اَلْمُسْلِمِينَ، وَصَلاَحُ اَلدُّنْيَا وَعِزُّ اَلْمُؤْمِنِينَ؛ إِنَّ اَلْإِمَامَةَ أُسُّ اَلْإِسْلاَمِ اَلنَّامِي، وَفَرْعُهُ اَلسَّامِي؛ بِالْإِمَامِ تَمَامُ اَلصَّلاَةِ، وَاَلزَّكَاةِ، وَاَلصِّيَامِ، وَاَلْحَجِّ، وَاَلْجِهَادِ، وَتَوْفِيرُ اَلْفَيْءِ، وَاَلصَّدَقَاتِ، وَإِمْضَاءُ اَلْحُدُودِ، وَاَلْأَحْكَامِ، وَمَنْعُ اَلثُّغُورِ، وَاَلْأَطْرَافِ“.
فالولاية خيمة إلهية نصبها لعباده وأمرهم بالدخول فيها، وحفظها وحمايتها، فمَنْ دخلها كان آمناً.
يقول الإمام الباقر عليه السلام: “بُني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودي بالولاية”
-
معرفة الولي والإمام
وهنا نفقه ونعرف معنى تلك العبارات المختلفة التي وردت في الزيارات الشريفة للمراقد المطهرة لأهل بيت العصمة، وأئمة المسلمين، كتلك التي وردت في زيارة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، حيث نقول: “اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وَلِيَّ اللهِ وَابْنَ وَلِيِّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا حُجَّةَ اللهِ وَابْنَ حُجَّتِهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا إِمامَ الْهُدى وَاَلْعُرْوَةُ الْوُثْقى وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ… أَتَيْتُكَ بِأَبي وَأُمّي زائراً عارِفاً بِحَقِّكَ، مُوالِياً لأَوْلِيائِكَ مُعادِياً لأَعْدائِكَ فَاشْفَعْ لي عِنْدَ رَبِّكَ“. (مفاتيح الجنان: ص597).
فما هي المعرفة المقصودة هنا، لا سيما إذا عرفنا أن حق المعرفة متعذرة على أمثالنا من البشر كما في الرواية المشهورة والمعروفة عن رسول الله، صلى الله عليه وآله التي يقول فيها: “يا عليّ؛ ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا“، هذه المعرفة الحقَّة، وهي مخصوصة بهم سلام الله عليهم، وهي التي ورد فيها الأحاديث الشريفة التي تقول: “إن أمرنا صعب مستصعب“، وهو بقول ووصف مولانا الصادق عليه السلام: “إن أمرنا هو الحق، وحق الحق، وهو الظاهر، وباطن الظاهر، وباطن الباطن، وهو السِّر، وسرُّ السِّر، وسرُّ المستسر، وسرٌّ مقنَّع بالسِّر“.
والأحاديث كثيرة في هذا الباب الخاص بالخواص، ولذا أغلقه أصحابه وأمرونا بقولهم: “خالطوا الناس بما يعرفون، ودعوهم مما ينكرون، ولا تحملوا على أنفسكم وعلينا، إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان“، فتحميل الناس ما لا يحتملون سيؤدي إلى الكفر والجحود لا سمح الله، ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “أُمرنا معاشر الأنبياء أن نُكلِّم الناس على قدر عقولهم“.
أما معرفة الحق فهي من الأمور التي أُمرنا بها وتَعبَّدنا الله بها فما هي، وما معناها هنا؟
والمراد بمعرفة حقهم الواردة في الأخبار هي معرفة أنهم أئمة معصومون مفترضة علينا طاعتهم، وأن نأخذ منهم، ونتَّبع سيرتهم وسُنَّتهم في أمور التشريع والتكوين لأنه لهم الولاية فيهما، وأما المعرفة بالنورانية المشار إليها في حديث المعرفة بالنورانية الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام فهي خاصَّة بأمثال سلمان المحمدي، وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود الكندي، حيث قال عليه السلام: “يا سلمان ويا جندب؛ إنّ معرفتي بالنورانية معرفة اللَّه، ومعرفة الله معرفتي، وهو الدِّين الخالص“، فهم من الخواص الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان.
وربما هي المعرفة الخالصة المشار إليها والواردة في الزيارة الجامعة الشريفة عن إمامنا الهادي عليه السلام حيث نقول: “فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقهم وفي زمرة المرحومين بشفاعتهم“، أي نطلب من الله تعالى أن يُدخلنا في جملة العارفين بهم وبحقِّهم؛ أي أن نكون ممَنْ هداه الله إليهم، وإلى ولايتهم، وفقَّهه في الدِّين بمعرفة حقِّهم المفروض على الخلق من الخالق، أي يجب أن نكون ممَنْ يعتقد بهم أئمة معصومين ومستحفظين على رسالة الله ودينه الحق، وبالاعتقاد بهم وبعلومهم الربانية، ومعارفهم، وفضائلهم، وكمالاتهم، وأسرارهم المكنونة، وعلوِّ درجاتهم المخزونة، يدخل الإنسان في العارفين بهم وبحقِّهم، ومعرفة الشيء تمييز له بتمام خصوصياته عن غيره بحيث يمتاز عمّا سواه.
إن المراد من معرفتهم التي يجب على العباد أن يتصفوا بها هو الاعتقاد الكامل بولايتهم الإلهية العظمى التي حباهم الله تعالى بها دون سائر خلقه ملكاً وملكوتاً ولاهوتاً وناسوتاً ووجوب الاعتقاد بالإمامة الكلية، والخلافة الثابتة لهم، بتمام معانيها من الولاية التكوينية، والتشريعية”
وبعبارة أُخرى: “إن المراد من معرفتهم التي يجب على العباد أن يتصفوا بها هو الاعتقاد الكامل بولايتهم الإلهية العظمى التي حباهم الله تعالى بها دون سائر خلقه ملكاً وملكوتاً ولاهوتاً وناسوتاً ووجوب الاعتقاد بالإمامة الكلية، والخلافة الثابتة لهم، بتمام معانيها من الولاية التكوينية، والتشريعية”.
وهذا ما قاله الإمام الحسين عليه السّلام عندما سُئل عن المعرفة فقال: “معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي تجب عليهم طاعته“، فمعرفة الإمام والدخول في فسطاط الإمامة والولاية الربانية هي بداية الدِّين الحق، ومفتاح خزائن الخيرات والبركات على العبد عقيدة وواقعاً، وهذا ما نقوله في الزيارة الجامعة العظيمة، حيث نخاطبهم: “ذِكْرُكُمْ فِي الذّاكِرينَ، وَأَسْماؤُكُمْ فِي الأَسْماءِ، وَأَجْسادُكُمْ فِي الأَجْسادِ، وَأَرْواحُكُمْ فِي اْلأَرْواحِ، وَأَنْفُسُكُمْ فِي النُّفُوسِ، وَآثارُكُمْ فِي الآثارِ، وَقُبُورُكُمْ فِي الْقُبُورِ، فَما أَحْلى أَسْمائَكُمْ، وَأَكْرَمَ أَنْفُسَكُمْ، وَأَعْظَمَ شَأنَكُمْ، وَأَجَلَّ خَطَرَكُمْ، وَأَوْفى عَهْدَكُمْ، وَأَصْدَقَ وَعْدَكُمْ، كَلامُكُمْ نُورٌ، وَأَمْرُكُمْ رُشْدٌ، وَوَصِيَّتُكُمُ التَّقْوى، وَفِعْلُكُمُ الْخَيْرُ، وَعادَتُكُمُ الإِحْسانُ، وَسَجِيَّتُكُمُ الْكَرَمُ، وَشَأنُكُمُ الْحَقُّ، وَالصِّدْقُ، وَالرِّفْقُ، وَقَوْلُكُمْ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَرَأيُكُمْ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَحَزْمٌ، إِنْ ذُكِرَ الْخَيْرُ كُنْتُمْ أَوَّلَهُ، وَأَصْلَهُ، وَفَرْعَهُ، وَمَعْدِنَهُ، وَمَأواهُ، وَمُنْتَهاهُ..”.
هذه هي المعرفة الممكنة التي أُمرنا بها عندما نزور أئمتنا وسادتنا أن نقف على قبورهم وأضرحتهم ومزاراتهم وأن نقول لهم: “أَتَيْتُكَ بِأَبي وَأُمّي زائراً عارِفاً بِحَقِّكَ“، فالمعرفة بالحق هو الذي دعاني إلى أن أقصدكم، وأسير إليكم ملتمساً نداكم، وفضلكم، ونوركم، ومحبتكم، وصِلتكم التي هي صِلة رسول الله، صلى الله عليه وآله ومحبته التي هي أساس هذا الدِّين القويم، حيث قال: “لكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت“.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: “قال لي رسول الله: يا علي، إن الإسلام عريان، لباسه التقوى، ورياشه الهدى، وزينته الحياء، وعماده الورع، وملاكه العمل الصالح، وأساس الإسلام حبي وحب أهل بيتي“، والأمر والبناء يقوم على أساسه وإذا لم يكن له أساس فهو لا يقوم، وإن قام فسيسقط على رؤوس أهله ويكون وبالاً عليهم.
وهذا هو الجزء الإيجابي في الزيارة والتي نطلق عليه الولاية والولاء؛ (مُوالِياً لأَوْلِيائِكَ)، وهناك الجزء الآخر السلبي والذي نسميه بالبراءة والبراء، حيث نقول: (مُعادِياً لأَعْدائِكَ)، وهما جناحا فسطاط الولاية الكبرى في هذه الدنيا، التي أمرنا الله ورسوله بالدخول فيها بجناحيها.
-
زيارة الإمام الرضا
بهذا المعنى، وبهذه المعرفة نقصد، ونزور الإمام الثامن، الضامن لزوَّاره الجنة، ولكن بشرط هذه المعرفة، وهذه المحبة، وهذا الولاء له ولأولياء الله، والعداء لأعدائه وأعداء الله، وبغير هذا الفهم وهذا العلم والمعرفة تكون زيارتنا للأحجار، والبناء، والفضة في القفص، والذهب في القبة المشرفة، لا للإمام علي بن موسى الرضا المعصوم، المفترض الطاعة، والولاية من الله.
والعجيب أن بعضهم ينظر إليه ويزوره لأنه ولي عهد المأمون، والآخر يزوره لأنه السلطان، وغير ذلك من الأمور الدنيوية التي تمتع واتصف بها الإمام الرضا عليه السلام، ولكنها أمور دنيوية اعتبارية وليست حقيقية وإلهية، فما معنى السلطان إذا لم يكن سلطاناً على القلوب والأرواح كما قال والده العظيم الإمام موسى بن جعفر لهارون الرشيد فأغضبه وحقد عليه حتى قتله؟
فعندما نتوجَّه إلى الزيارة الرَّضوية في مشهده المقدس، علينا أن نتوجَّه إلى الله، ثم نقصد وليَّه، وحُجته علينا، الإمام الثامن من أئمة المسلمين، من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، عند ذلك تكون زيارتنا مقترنة بمعرفة الحق الواجب علينا لإمامنا علي بن موسى الرضا.
السلام على الإمام الضامن لزواره الجنة إذا زاروه عارفين بولايته وأحقيته بقيادة الأمة والحياة.