-
مفهوم القيادة
القيادة من أهم وأعظم المفاهيم في الحياة الإنسانية، وذلك لما للقائد من أهمية وضرورية في حركة الحياة الاجتماعية، فالقائد كالرأس في الجسد، ولا قوام للجسد، ولا قيمة له بلا رأس مفكر، ومدبِّر، ولذا إذا تعطَّل الرأس لسبب من الأسباب أو مرض من الأمراض فإن الجسد يفقد كل شيء وإن كان يتحرك، ولكن سيكون كالحيوان الذي تُحركه غريزته.
والإنسان هذا المخلوق المكرَّم، والمفضَّل عند خالقه سبحانه، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. (سورة الإسراء: آية70).
فالكرامة الإنسانية والتفضيل على كثير من خلق الله هو بهبته العقل المفكر، والإرادة المدبِّرة، وبهما تمَّت له كل النِّعم، فبالعقل عرفنا الله خالقنا، وبالإرادة أطاع مَنْ أطاع، وعصى واستكبر مَنْ عصى، ولكن هذا العقل الذي هو رسول من داخل الإنسان، لا يستطيع لوحده أن يُدرك كل الموجودات لا سيما المجردة منها، فلا بدَّ له من رسول من خارجه، وهو بمثابة عقل خارجي يهديه ويرشده، وهو الوحي الإلهي الذي يُنزله على أفضل وأشرف بني البشر، حيث يُكمل لهم عقولهم ويُنير لهم الطريق من لدنه، وهذا ما جاء في وصية الإمام موسى الكاظم، عليه السلام لهشام بن الحكم في العقل والوحي ووظائفهما في البشر، يقول فيها: “يا هشام! ما قسم بين العباد أفضل من العقل، نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وما بعث الله نبيا إلا عاقلا حتى يكون عقله أفضل من جميع جهد المجتهدين، وما أدى العبد فريضة من فرائض الله حتى عقل عنه“. (تحف العقول: 397).
يقول سماحة المرجع السيد المدرسي (حفظه الله): “والعقل هو ذلك النور الذي نُميَّز به الخير عن الشر، والحسن عن القبيح، وحينما ينحسر عنا عند الغضب والشهوة العارمَيْن، نرتكب القبائح ثم نلوم أنفسنا عندما يعود، هو الذي نفقده عند الصغار والمجانين والحمقى فنرى فيهم نقصاً كبيراً، وهو الذي يُحاسب الناس بعضهم بعضاً على أساسه ويحمِّلونهم به مسؤولية أفعالهم، وهكذا يصف الإسلام العقل بصفاته التي تتجلَّى في العقلاء.
والوحي إثارة للعقل وتذكرة به، وقد خلقه الله من نورٍ مخزونٍ مكنونٍ عنده فأكرمه وحّمله المسؤولية حين قال له: “بك أُثيب وبك أُعاقب“، وقد فصّل قادة الإسلام القول في العقل، كما فعل الإمام الكاظم في وصيته الحكيمة، حيث بيّن فيها دوره في تلقّي الحقائق من الوحي، وبيّن كيف أنّه يكتمل بالعلم والخُلُق الفاضل، وأنّه حجة الله ورسوله في الباطن، وأنّه لا يختلف عن الوحي شيئاً”. (التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده؛ السيد محمد تقي المدرسي: ج1؛ ص13).
لا شك أن تحديد صيغة (القيادة) من أهم وظائف المبدأ الذي يتكفل مسؤولية إسعاد الإنسان وذلك لأن القيادة تعكس حضارة الأمة وتُبرز روح نظامها، كما تُعطي فكرة جامعة عن فلسفتها في الحياة، مضافاً إلى أنها تضمن انطلاقة الأمة، واستقامة مسيرتها في الحياة
-
عقل الأمة رسول الله فيها
هنا يمكن لنا القول: بأن القائد، هو الرسول صلى الله عليه وآله، والقيادة هي لبُّ الرِّسالة لكل نبي في أمته، فالرَّسول بالنِّسبة للأمة هو عقلها المفكر، ونورها المضيء، ورأسها المدبِّر لكل شؤونها في هذه الحياة، والسيرة النبوية المطهرة هي أكبر مثال على ما نقول، فالله سبحانه اختصر الرسالة بالرسول الأكرم، فجعله رسالة متحركة، وكذلك القرآن الحكيم، فالرسول تلقَّاه من الله كوحي، ولكن بلَّغه إلى الأمة بكل دقَّة وأمانة، وترجمه على أرض الواقع في سلوكه فيها فكانت الأمة تسمع منه الآيات وترى منه التطبيق العملي، فكان الرَّسول القائد، هو روح التشريع النظري، وسيرته العطرة عمل الشريعة وتطبيقها، وهذا ما لم يفهمه بعض الفرق الضالة التي تدَّعي الانتساب إلى الإسلام، وهم ليسوا من الإسلام في شيء.
فهم ينظرون إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، كأي شخص حمَّلته رسالة وأعطيته أجراً وقلتَ له: اذهب بها إلى فلان وأعطيه إياها، فهو ساعي بريد، وفي بعض كلماتهم يصفونه ب (طارش)، فلا فضل له ولا خير فيه، ولذا قال ابن تيمية: “عصاي خير من محمد“، والعياذ بالله، والعجيب الغريب أنه يُبرهن على كلمته بقوله: “أنه يقتل بها الحية والعقرب“، ولم يُدرك أن معرفته برسول الله يقتل فيه الكفر والنفاق ويُخرجه من الظلمات إلى النور، ولكن هيهات لمَنْ تشبَّع بالحرام أن يفقه شيء من عظمة رسول الله صلى الله عليه وآله، ومَنْ يعِش في ظلمات الجاهلية ويُطالب الأمة أن ترجع إليها لن يستفيد من ذاك النور الذي خلقه الله من نور ذاته القدوسية؟
-
القيادة لم تُهمل في يوم
في الذهنية العربية منذ أن وجدت كانت الخضوع للكبير، ولذا قالوا: “مَنْ ليس له كبير فلشترِ كبيراً“، وذلك لأنه ليس له مدبِّر ولا تدبير، والله تعالى الذي ابتدأ البشر بنبي (آدم)، وأرسل إليهم الأنبياء والرُّسل عليهم السلام وأنزل عليهم الكُتب، وعلَّمهم الشرائع، وجعل لكل نبي وصيَّاً، من أقرب المقرَّبين به، إما ولداً أو كالولد، مثل الأخ وليس بعدهما قرابة وصلة، فعلى طول التاريخ كانت سُنَّة الله في البشر كذلك.
والعرب الذين ابتدؤوا بنبي الله إسماعيل، عليه السلام كانوا يُسلمون لشيخ القبيلة والعشيرة أمورهم ليُدبِّرها لهم بحكمته وعقله ومسؤوليته، لذا تراهم يُسلِّمون القيادة إلى أرجحهم عقلاً، وأحذقهم تدبيراً، وأذكاهم في تسيير الشؤون العامة للعشيرة وعلى هذا ساروا إلى اليوم الذي نراهم فيه في عشائرنا لا سيما في العراق الذي يفتخر بعشائره ومواقفها الوطنية البطولة، ببركة رؤساء العشائر.
القائد العظيم الذي علَّم الناس أصول الحياة، وسنَّ لهم مبادئها الراقية، أمرهم بالوصية، وأن يؤمروا أحدهم إذا كانوا ثلاثة، بل حتى في أسرهم ومنازلهم، يترك هذه الأمة وهذا الدِّين الغض الطري ليتلاعب فيه رجال قريش وأعراب الجاهلية
وأما على المستوى الأسري والشخصي فإن الشريعة الإسلامية أوجبت الوصية على كل مكلف، واعتبرتها بعض النصوص نقص في الرجولة، والمروءة، وهذا فقه الجميع يُقرُّ بذلك، والأسرة الصغيرة التي تتألف من اقتران رجل بامرأة جعل الله القيادة للرجل، حيث قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. (سورة النساء: آية 34).
فإذا كانت الأسرة والبيت أمر الله فيها بقائد وبيَّنه، ورسول الله صلى الله عليه وآله، قال عشرات الأحاديث، والتي نستفيد منها التواتر: “لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ“. (أحمد في مسنده: ج2/ص177 ح6647).
أو قوله بل أمره صلى الله عليه وآله: “إذا خرجَ ثلاثةٌ في سفَرٍ فليؤمِّروا أحدَهُم“. فكيف يُجيزون على أنفسهم أن يتَّهموا رسول الله، أنه انتقل ولم يوصِ إلى أحد من بعده؟
فالقائد العظيم الذي علَّم الناس أصول الحياة، وسنَّ لهم مبادئها الراقية، أمرهم بالوصية، وأن يؤمروا أحدهم إذا كانوا ثلاثة، بل حتى في أسرهم ومنازلهم، يترك هذه الأمة وهذا الدِّين الغض الطري ليتلاعب فيه رجال قريش وأعراب الجاهلية، سبحانك هذا بهتان عظيم على رسولك، الذي بدأ ببيان وصيه من قبل بعثته حيث ربَّاه في حِجره وحضنه، وعلى عينه ليله ونهاره، فكان يحمله على صدره ويدور به في جبال مكة، فكان أحب إليه من بنيه كما يصفه عمَّه العباس، ألا وهو شبيهه ووصيه وأخاه في الدِّين والرِّسالة، ووزيره عليها وخليفته فيها في عشرات النصوص، كان أوَّلها يوم الدار والإنذار، وآخرها يوم الغدير الأغر، ألا وهو أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
“فلا شك أن تحديد صيغة (القيادة) من أهم وظائف المبدأ الذي يتكفل مسؤولية إسعاد الإنسان وذلك لأن القيادة تعكس حضارة الأمة وتُبرز روح نظامها، كما تُعطي فكرة جامعة عن فلسفتها في الحياة، مضافاً إلى أنها تضمن انطلاقة الأمة، واستقامة مسيرتها في الحياة.
وإذا كان الإسلام هو المبدأ الذي تكفَّل بإسعاد الإنسان وتحمَّل مسؤولية إصلاحه وإصلاح أمره لا في الآخرة فحسب بل في هذه الدنيا أيضاً فأين تحديده للقيادة؟
فإذا كان الإسلام هو المبدأ الذي تعهَّد بتنظيم الحياة الاجتماعية والفردية ولا يمكن ذلك إلا في ضوء (قيادة متكاملة) يَعرف فيها كل من الفرد والمجتمع واجباته ويعمل بوظائفه دون تعد أو تقصير فأين إذن موضع القيادة، وما هي صيغتها في النظام الإسلامي؟ وهل يمكن أن يتجاهل هذا النظام الدقيق أهم ما تقوم عليه سعادة المجتمع والفرد وهو يعتني بأصغر شيء في حياة الإنسان دون خجل أو استحياء؟
بكل تأكيد لا يمكن للإسلام أن يتجاهل ذلك ولكن هل نرى سوى السحب الداكنة تكتنف هذا الأمر الخطير، والا الضَّباب يلفُّ هذا الموضوع المهم جداً حتى ليكاد الإنسان أن يظن إهمال الإسلام له وإعراضه عنه!” (القيادة الإسلامية؛ جواد كاظم: ص10).
أبداً، وحاشا لله ولرسوله، صلى الله عليه وآله، أن يدع أمر الأمة والرسالة هكذا بلا قائد يقودها إلى الهدى، والنور، الذي تكفَّل به الدِّين العظيم، والقرآن الحكيم، ولكن رجال قريش الطامحين للسلطة، والطامعين بالحكم والخلافة هم الذين حرفوا الأمة في مثل هذه الأيام حيث قال لهم رسول الله وأمرهم أن يخرجوا في جيش أسامة فرفضوا، ثم جاؤوا إليه فقال لهم: “ايتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. فقالوا: أ هَجَرَ؟!” (صحيح البخاري: 4/1612/4168).
فالمشكلة لم تكن بالرَّسول، صلى الله عليه وآله، أو في الرِّسالة ولكن المشكلة في المعصية، ومواجهة رسول الله ومنعه من كتابة الكتاب الحافظ للأمة من الضلال والضياع، التي تصدى لها رجال قريش بكل قوة وفرضوا نظريتهم (حسبنا كتاب الله)، ورفضوا نظرية الثقلين (كتاب الله وعترتي)، فأدخلوا الأمة في نفق مظلم لم تستطع الخروج منه إلى اليوم بسبب ضياع القيادة فيها ولها.