لا تزال تتذكر ذلك اليوم الذي دعتها فيه خطواتها للسير في منتصف الليل الى المجهول حاملة بيدها ورقة ومشاعر يائسة وبليدة.
اندفعت أقدامها بالسير بشكل متواصل فتوقفت ترتاح قليلاً لتجد نفسها في حديقة غنّاء واسعة كثيرة الأشجار والأزهار، وما يميزها، امتلاؤها بزهرة الزنبق بلونيها الأحمر والأبيض التي تتدلى كالأجراس، وقد توسطت الحديقة شجرتا ريحان متفرعتا الأغصان مليئتان بالورد الأبيض الجميل.
كان القمر في كبد السماء تطل أنواره على المكان، وفجأة تلبدت السماء وغطتها سحابة بيضاء حجبت نور القمر ليحل الظلام الموحش مجدداً، وفي تلك الساعة هبت الرياح فسرت في جسدها رعدة الخوف فانقبض قلبها رعباً، وأغلقت عينيها، وشدت يديها كانت قد حملتها لتلقي بها في النهر، ولم يلبث الوضع ان تغير فهدأت الريح ولامس بشرتها هواء عليل عندها فتحت عينيها.
انتشرت اليراعات المضيئة في أنحاء الحديقة فسعدت لمنظرها وهي تتراقص بطيرانها في الفضاء ثم تهبط عند النبتات.
في تلك الاثناء الخيالية سمعت أحدهم يتلو الصلوات. كان صوتاً ملائكياً سماوياً! ما إن وقع بصر الفتاة على صاحب الصوت حتى امتلأ ناظرها بجماله وبهائه، فكانت تنصت وتصغي لترتيل كلماته، وكأنه مزمار داود يبث في أذنيها اللتين سرت بهما أنغامه صوت سريان الماء على المنحدر فانبسطت أساريرها واطمأن له فؤادها وسكنت أحاسيسها.
كان ذا عينين نرجسيتين وحاجباه متصلان، واسع الجبهة، حسن الوجه، في خده الأيمن شامة قد زاد قسماته جمالاً، وقد غطى شعره كتفيه، ويعلو نور وجهه سواد لحيته ورأسه. تمتمت قائلة: يا الله ! انه مألوف جداً.
خُيِّل إليها أنه لا يعلم بوجودها في المكان، ولربما كان يملكه، فلم تنتهِ الفتاة من تصوراتها حتى وقف في مكانه والتفت إليها مخاطباً إيّاها: السلام عليكم.
فاستحيت لأنها لم تلقِ التحية عليه، فردت بارتباك: وعليكم السلام ورحمة الله.
سألها عن سبب خروجها في الهزيع الأخير من الليل وحدها؟!
احمرّ وجهُها وبدا عليها الخجل وسكتت كأنها تنتقي الكلمات بصعوبة بالغة لكنه استطرد وكأنه يعلم ما يختلج في نفسها:
يبدو أنك تريدين إيصال الورقة إلى أحدهم أليس كذلك؟
أحست بأنه يشجعها على الكلام فاستجمعت قواها وخاطبته بكلام ممزوج بنغمة حزينة:
أردت أن أرميها في نهر جارٍ ولعل الذي أريد إرسالها إليه يردّ عليّ ولو بحرف واحد فلقد بعثت كثيراً منها، خاصة في بداية كل عام عندما يكون الناس قد نشروا المصابيح للاحتفال برأس السنة حيث أحتفل برسالة أكتبها إليه أخط بها حروف الأمل والشوق لانتظاره ولكن لم يأتِ جواب منه ألبتة.
وهل أعددتِ العدة للقائه؟
كانت كلماته تحمل جدية. طأطأت رأسها وقالت: إنني أحاول أحيانا فأفلح مرة وأفشل أخرى.
فأشفق عليها وقال: أصلحي أمرك كله وسوف يأتي لزيارتك بنفسه.
اضطربت وحرّكت رأسها مستفهمة لأنه يتحدّث وكأنه يعرف الشخص المقصود.
أحسّت أنه يريد الذهاب فتلهفت لسؤاله عمن يكون فقاطع خلجاتها ثانية:
أعطنيها وسوف أضعها بيديه.
غمرها سرور جامح ملأ كيانها، وأحست أنها لم تسعد في حياتها قط مثل هذه اللحظات، وكادت روح السعادة لديها تعرج لتصل إلى السماء السابعة، فسلمتها إليه.
أمسك الورقة وتصفّح فيها ولما لم يجد سوى جملة واحدة: «بحق الله سامحني» أطرق وهو ينظر فيها.
ارتسم الحزن على قسماته، فوجل قلبها وأخذت تطيل التفكير في الأمر فلم تزل كذلك حتى سمعته ينادي باسمها ويقول: لمَ لمْ تكتبي سوى هذه الجملة.
ابتسمت وقالت: قد أخبرتك يا سيدي آنفاً أنني كتبت له سطوراً كثيرة، وعندما يئست من الجواب اعتقدت بأنه لن يقرأها مطلقاً.
ــ لقد اطّلع على جلّها، ومنذ الوهلة الأولى لخروجك فإنه قد سامحك!
هنا وجدت الشابة نفسها غارقة في السعادة. هل هي تحلم أو في يقظة؟ لا أعرف ماذا يطلق عليها، أتراها هي المعجزة؟ كلا، كلا.
ــ ليس الأبدان فحسب التي تتقابل. إن الأرواح تتقابل أيضا، ويكون الاتصال عندها بقوه مضاعفة لا يدركها سوى القلة.
ــ وكيف تتقابل أو كيف تتصل فيما بينها؟
ــ الإخلاص في الدعاء، واللهج في الذكر، وخاصة الذكر في الغيب، فليس من الضروري أن ترَي شخصه بدنياً، فلربما قابليتهِ روحياً عندما عشتِ في أيّ من هذه الحالات، ألم تقولي قبل قليل بأن شكلي مألوف عندكِ؟
ــ بلى هذا صحيح، لقد كنت أتمتم ولا أظن أن صوتي كان مسموعاً.
ــ لقد سمعته!
ــ سيدي كيف لي أن أعرف أنني قابلته روحياً؟
ــ بالإحساس يدرك الإحساس لقد كتبتِ رسائل ممزوجة بالصدق وحملتها آمالك وشوقك وهي نيتك المخلصة وصدقك والشوق أحد تلك الأحاسيس.
ــ اها… يعني أنه مشتاق لي مثل ما أنا مشتاقة إليه.
ــ نعم، ويدعو لك مثلما تدعين له، وهذا هو الاتصال الروحي، والآن لزم عليَّ الذهاب
ــ حسناً، لقد أسعدني الحديث معك، وأنا ممتنة لحضرتك للإجابة على تساؤلاتي التي طالما اجتاحت فكري، وأخذت مأخذاً كبيراً في عقلي. لك جزيل الشكر يا سيدي وحفظك الله ورعاك
ــ في أمان الله
ما إن همت بالعودة حتى تذكرت أنه ذكر اسمها.
ما الذي يحدث؟! من أنت؟ إنه يعرف أشياء كثيرة عنها وعن السيد… لربما كان هو…! فزعت وهالها الذي أدركت، وما هي إلا لحظات حتى التفتت فوجدته قد اختفى فانهمر الدمع من عينيها، وجثت في مكان مصلاه تبكي بصوت أجش وتلثم الأرض التي كان فيها قبل لحظات ولما أفاقت من حزنها وجلست تحت الشجرة التي كان يناجي عندها وجدت ورقة وكان هنالك شيء يشدها للنظر فيها، فسارعت وفتحتها فوجدت خط يديه المباركتين:
«بسم رب الرحمة
أما بعد…
فاتخذي يا بنيتي من طلب العلم سلاحاً في عصر حلّ فيه جهل حالك. ومن محرابك موطناً تعيشين وتموتين فيه. ولازمي مقصدك. وتدرعي بلباس العفّة والحشمة ما يمنع عيون الثعالب من الترصد لطهارتك وتدنيسها بأوساخهم هذا وتذكري إن أي خطاب من أقصى الأرض وأدناها يصل إليّ، فلا تبتئسي فإن اللقاء بات قريباً إن شاء الله.
والسلام على دموعك التي تذرفينها الساعة».
همس صوت النسيم في أذنيها: هلمّي… هلمي… فقد آن وقت يوم جديد.
فنهضت من مكانها محاطة بأوراق الأشجار التي حملتها الرياح إليها وابتسمت وقالت: أجل، أعلم ذلك.
وأيضاً؛ سلامٌ على أناتك وحلمك ودعواتك.
قصة قصيرة
لا تزال تتذكر ذلك اليوم الذي دعتها فيه خطواتها للسير في منتصف الليل الى المجهول حاملة بيدها …