كشف المرجع المدرسي في مؤتمر “الإيمان والبيئة” الذي اقامته الأمم المتحدة في آيسلاند يوم ٥/ ١٠/ ٢٠٢٠م، عن فهم عميق ومتقدم لفلسفة الاديان عامة والإسلام خاصة، فالفهم الشائع يصور الأديان وكأنها مجرد احساس معنوي هدفه الابتعاد بالإنسان عن الأرض لكي يقترب اكثر من السماء، فالدين ضمن هذا الوصف يعمل على تجاوز الطبيعة وفك ارتباط الإنسان بكل ما له علاقة بالدنيا، وما يؤسف له أن خطاب بعض قادة الأديان عمل على تأكيد التجربة الذاتية، التي تجعل كل فرد يتحرك في إطار ما يربطه بشكل خاص بمعبوده.
ومن الواضح أن الأمم المتحدة لم تكن تطمح في إيجاد فلسفة دينية لها علاقة مباشرة بالبيئة، ولذا نجد أن مؤتمراتها السابقة عملت على استعراض ممتلكات الأديان من مباني وأراضي وغابات وكيفية الاستفادة منها لخدمة البيئة. بينما في تصوري أن كلمة المرجع المدرسي كانت صادمة لما احتوته من مضامين تجعل الأديان حاضرة وبشكل مباشر في كل الهموم الحضارية.
وبذلك اثبت أن الإسلام هو القادر على خلق توازن دقيق بين عالم الدنيا وعالم الاخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، والوصول إلى هذا التوازن ليس مجرد دعوة جوفاء، وإنما يسبقها تأسيس معرفي وتصور منهجي، وهذا ما انجزه سماحته في كثير من كتاباته وبخاصة التشريع الإسلامي، فكانت هذه الكلمة ثمرة لجهود سنوات من التأسيس المعرفي والقراءة الدقيقة للنص الديني.
فالإيمان لا يكون له ربط بالبيئة إلا إذا ارتكزنا على المنظومة المعرفية التي أسسها سماحته، فالإيمان عنده هو التسليم للحق، والذي يبدأ من التسليم للحي القيوم الذي به قامت السماوات والأرض، ثم التسليم لأسمائه الحسنى التي تتجلى في الطبيعة سنن وفي الإنسان مُثل وفضائل وقيم.
والإيمان بهذا الوصف هو تعبير عن الاعتراف بما للأشياء من وجود وحقيقة؛ لأن ثقة العقل بمعارفه هي التي تحقق التسليم بوجود الأشياء وبالتالي الأيمان بما للأشياء من حقيقة وحقوق، فعندما يتحقق مثلاً الإيمان بوجود الأخر لابد أن يستتبع ذلك الاعتراف بحقه في الحياة، وبحقه في أن يعيش كريماً، وهكذا جميع حقوقه الضرورية والكمالية.
والحال نفسه عندما نعترف بالشمس والأرض والحياة نشرع في بناء العلاقة القائمة على الحقوق الموضوعية؛ لأن هذا الاعتراف يعتبر بذرة الحقوق في العلاقة مع الاخر، وهذه هي حِكمة المعرفة وثمرة العقل فمن دون الإيمان بحقيقة الأشياء وواقعيتها يستحيل التواصل معها والتكامل بها. فكل شيء موجود يعتبر ذا حق، لأننا نعترف به، وبالتالي علينا أن نتكيف معه. فمثلاً الطبيعة موجودة، وحقها الاعتراف بها، فقد نسخرها لمصلحتنا، وهذا حقنا عليها، وقد نحافظ عليها ونرعاها وهذا حقها علينا، لأن اعترافنا بها يستدعي التكيف معها بصورة أو بأخرى.
وهكذا تأتي شرعية الحقوق حسب هذه الفلسفة ولكن ليس من باب منفعة الشيء للذات وإنما من باب الاعتراف بوجوده كشيء موضوعي قائم وله حقوق كما له حقيقة.
وبهذا البعد نفهم علاقة الايمان بالبيئة، وفي هذا السياق نفهم كلمة المرجع المدرسي، التي أسس فيها لمسؤولية المؤمن إتجاه الطبيعة، وعند ذلك يمكننا القول إن الإسلام يمثل الخلفية الفلسفية والبنية المعرفية التي تمكن كل البشرية من تجاوز ما يواجهون من تحديات.