وماتت فاطمة بنت محمد خاتم النبيين!، تمت مراسيم التكفين والتشييع والدفن سراً جوف الليل، ثم عادت الثلّة القليلة من المقربين أدراجها بعد استقرار الجثمان الشريف تحت الثرى، كما عاد عليٌ ايضاً مع ابنائه، ولكن؛ هل كان لظلمة تلك الليلة الليلاء صبحٌ بإشراقة حقيقية على النفوس؟
حقاً؛ إن الناس نيام، ما أن يدركهم الموت حتى ينتبهوا على أنفسهم محمولين على آلة حدباء لا يمشون على الارض أحياءً مثل سائر الناس. فأي عاقبة ومصير يحملونه معهم في اللحظات الاخيرة قبل ان يختطفهم الموت على حين غفلة؟
ظنّ أهل المدينة في تلك الأيام أنهم سينامون لياليهم بهدوء دون أن يعكّر عليهم صوت نحيب فاطمة على أبيها طيلة أيام حياتها بعده، إنهم قضوا أياماً وليالي هانئين مستقرين، كلٌ ذهب الى حال سبيله، بل وإن البعض اعتقد أنه على سلامة من دينه، فكل شيء على ما يرام.
نعم؛ أمن المجتمع وحريته في الحركة والعمل والبناء والعيش الكريم، من صميم طموحات فاطمة (ع)، ولا أدلّ على بعض الومضات التي نقلها لنا التاريخ، من تعاملها مع الجار والفقير ومع بنات جنسها، كما هي الاهداف الرسالية لسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام.
لنقرأ معاً هذا المقطع من الخطبة الفدكية للسيدة الزهراء، عليها السلام، والمعروفة بطابعها الحماسي المشحون لوماً وتقريعاً للمتخاذلين عن نصرة أهل البيت، بيد أنه يؤكد لنا رسالتها الانسانية وحرصها على مصير الناس أجمعين من الانحراف صوب المحن والأزمات:
«…فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ، وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ، وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ، وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ، وَبِرَّ الْوالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصاصَ حِصْناً لِلدِّماءِ، وَالْوَفاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكاييلِ وَالْمَوَازينِ تَغْييراً لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجاباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجاباً لِلْعِفَّةِ…».
كل هذه القيم والمبادئ تمثل كنزاً حضارياَ لأي أمة في العالم، ولكن؛ كيف تصرّف المسلمون مع هذا الكنز؟!
معظم نقائض الخير والفضيلة الواردة في هذا المقطع، كان خيار الناس آنذاك، وهو الذي صنع الواقع الاسلامي؛ اجتماعياً وسياسياً فيما بعد، واستمر الامر لعقود طويلة، بل لقرون متمادية حتى وقتنا الحاضر، وإلا ليتصور القارئ؛ محاسن وإيجابيات تلك القيم المذكورة في حال تطبيقها، وما كانت توفره على الأسرة والمجتمع، وايضاً على الثقافة والسلوك في الامة، بينما مضت نحو خمسة وعشرين عاماً في ظل حكم أبي بكر وعمر وعثمان، تم استسهال الظلم والطغيان والعنف والدجل وسائر الانحرافات التي أوصلت الامة الى عنق الزجاجة.
ما خلا الاربع سنوات من عمر الحياة السياسية للإمام علي، عليه السلام، لم يهنأ المجتمع الاسلامي والامة جمعاء في ظل الولاة والحكام، ولا يوماً واحداً، فكانت الازمات والفتن تترى، بدءاً بمحاربة رواية الحديث عن رسول الله، والتأسيس للتمييز العنصري وتمزيق المجتمع على اساس اللغة والعرق واللون وفق جاهلية ما قبل الإسلام.
ثم انتشار حالة الفقر والحرمان مقابل استئثار فئة قليلة بعائدات الحقوق الشرعية، ومن ثمّ انتهاك قوانين الدين وأحكام الشريعة بشكل فاحش، حتى بلغ الأمر لأن يكون أبناء الأمة الأحرار «العبيد» بعد تمكّن الأمويين من قتل الامام الحسين وابنائه وصحبه، «قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة، والله ليقتلنّ خياركم وليستعبدن شراركم فبعداً لمن رضي بالذلّ والعار…»، كما قالها الصحابي الجليل زيد بن أرقم منتفضاً بوجه ابن زياد وبين يديه رأس الامام الحسين، في ذلك الموقف التاريخي.
صحيح أن ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة، يثير الشجون ويستذكر الآلام، فتنهمر الدموع وتعلو الآهات لذلك المصاب الجلل، والصحيح ايضاً أن المناسبة الأليمة منذ أيامها الاولى وحتى اليوم والى يوم القيامة، تمثل دروساً وعبراً بليغة يفترض ان تأخذ مكانها في حياة الامة.
وبعد كل ذلك؛ هل يعقل أن نعيش حالة الاغتراب عن سيرة هذه السيدة العظيمة والاسترخاء الى ظواهر وتقاليد وعادات غريبة لا تمت بصلة الى الهوية والثقافة ولا حتى مع الفطرة الانسانية؟
لا نكرر تجربة أهل المدينة بتخلّيهم عن الزهراء عليها السلام
وماتت فاطمة بنت محمد خاتم النبيين!، تمت مراسيم التكفين والتشييع والدفن سراً جوف الليل، ثم عادت الثلّة القليلة من المقربين أدراجها …