-
مقدمة
الحديث هنا ليس عن الأخوَّة النسبية، علماً أن “الإسلام كدين واقعي لم يرفض العلاقات الاجتماعية الطبيعية، كالعلاقة بين الزوج وزوجته وأولاده ضمن الأسرة، والعلاقة ضمن العشيرة أو القبيلة، أو حتى علاقات الشعوب فيما بينها، فالله تعالى هو القائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. (الحجرات: 13).
مع وجود هذه العلاقات الاجتماعية، هناك علاقة أخرى، تتجاوز، وتتخطى، العلاقة الأسرية والعشائرية.. وهذه هي العلاقة الإيمانية، التي يكون محورها الإيمان بالله، ومن محبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ومن محبة أهل بيت النبي”. (سماحة المرجع المدرسي (حفظه الله).
فالحديث هنا عن تلك الأخوَّة الرُّوحية، والدِّينية، والحالة الإيمانية التي تتخطى العلاقات الدنيوية لتسير مع العلاقات السماوية، فتترك الدنيا وأهلها، وتعيش حالة الآخرة ونعيمها التي يصفها أصدق القائلين في قوله سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، فهم في الدنيا كحالهم في الجنة، إخواناً بكل معنى الكلمة.
تلك هي التي قصدها سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه) وأرادها أن تكون بين المؤمنين، لا سيما السائرين في مسيرة الكرامة، والعزة، والشرف، إلى سيِّدهم ومولاهم ومعشوقهم الإمام الحسين عليه السلام وإخوته، وأبنائه، وأصحابه الكرام، الذين أعطوا كل ما لديهم في سبيل إمامهم وعقيدتهم، فهؤلاء الكرام جمعتهم خيمة الولاية العظمى حيث؛ “تُشكل الولاية خيمة المؤمنين، وعمودها مودة النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم، وهذه المودة تنطلق من حب الله سبحانه وتعالى، وهل الدِّين إلا الحب (في الله والبغض في الله)؟”.
نعم؛ الدِّين الحق يتمثَّل ويتبلور حقيقة نورية في القلب، واجتماعية في الحياة، في الحب في الله والبغض فيه، والتولي لأولياء الله، والتبري من أعدائهم، وهذا ما نقرؤه في زيارات الإمام الحسين عليه السلام، كلها لا سيما زيارته العظيمة في يوم عاشوراء المتواترة والصحيحة عند العلماء.
العلاقة والولاية الإيمانية، لا بدَّ أن تتكرس، فعلاقة الإنسان بالآخر، والتي تنبع كعلاقة طبيعية، كالعلاقة الأسرية، أو العشائرية؛ كل هذه العلاقات ليست معنوية، وإنما علاقة منافع قد تتأثر بالظروف، بينما العلاقة الإيمانية تبقى فوق كل ذلك، فالله تعالى يعبّر عن المؤمنين بالبنيان المرصوص
-
الإخوَّة في الإنسانية
هذا المصطلح مستقى، ومعروف من تلك الدُّرة النورانية العلوية الشريفة التي كتبها لمالك الأشتر في عهده على مصر، وقد دوَّخت العالم في هذا العصر فاتخذوها شعاراً لهم في محافلهم الدولية والحقوقية العالمية، وهي قوله: “الناس صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ“، تلك هي المعادلة الإلهية في البشر التي ما فقهها البشر إلى اليوم، فتراهم أشرس من وحوش الغابات والفلوات، وأبشع من حيتان البحار والمحيطات، حيث يأكل القوي الضعيف، وليت البشر يقفون عند حد الأكل وإشباع الغريزة فيهم، بل تراهم يقتلون الملايين، ويُدمِّرون كل شيء بكبسة زر غاشمة كما فعلوا في الناغازاكي، وهيروشيما، وبغداد، ودمشق، وصنعاء، وغيرها من الدول التي أبادها الاستكبار، وأحرقها الاستعمار، واستعبدها الأقوياء فقط لأجل ترفهم وشفاء حقدهم وحسدهم للشعوب التي أنعم الله عليها بأنواع النِّعم المادية والمعنوية.
فأي علاقة يعيشها البشر في هذا العصر الذي تقاربوا فيه حتى الالتصاق، وتباعدوا حدَّ السماء، وذلك للهوَّة السَّحيقة بن عالم المترفين والطغاة والمستكبرين، وعالم الفقراء والبسطاء والمعوزين من أهل الحاجة والمساكين، الذين لا يجدون لقمةً تسدُّ رمقهم، فالملايين يموتون جوعاً، وبمقابلهم العشرات يموتون تُخمة وشبعاً، وينتحرون أشراً وبطراً، فهذا الخلل في بني البشر من أين منبعه، وإلى أين يصبُّ، وما الغاية من هذا الظلم الشنيع الذي يعمُّ العالم اليوم؟
الخلل في الإيمان، والعلاقة بالسماء، وشرائع الرَّب سبحانه التي تُنظِّم العلاقة بين البشر على أساس العدل بينهم، والقسط في مجتمعاتهم، فلكلٍ حاجته التي تُقيم حياته، فلماذا تكديس كل هذه الثروات في البنوك وما هي إلا أصفار، وأرقام فماذا تُفيد كل تلك الأصفار، إذا لم تسد جوعاً، أو تبني بيتً، أو تعلم جاهلاً، أو تفعل خيراً، إلا أنها ستكون عليهم ناراً، وحسرة وندامة يوم القيامة، لأنهم منعوها عن أصحابها بغير حق، فيُحاسبون عنها مرتين، وربما ثلاث مرات، وهذا ما قاله حكيم الإنسانية وعظيمها الإمام علي عليه السلام في درَّة أخرى له: “إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ“، (نهج البلاغة: ح328).
-
الأخوَّة الحقيقية في الحياة
فالأخوَّة الحقيقية ليست مجرد نسب، وولادة من أم وأب، وما شابه ذلك كالرَّضاع وغيرها، بل هي أعظم بكثير من هذه التي هي مجرد مورِّثات تنتقل مع الشيفرة الوراثية وما يُسمونه بالكروسومات (DNA)، وأما تلك الأخوَّة الروحية والدِّينية والتي تُصنَّف بالمعنوية، التي لا علاقة للمادة كبير تأثير بها وهي الأخوة الإيمانية، التي يجمعها – كما يُسميها سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) – بخيمة الولاية المباركة، وهي أعظم وأتم نعمة أنعم الله بها على البشر، وعلى هذه الأمة خاصة وذلك في قوله تعالى في يوم الغدير الأغر: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. (سورة المائدة: 3).
فكمال الدِّين والشرائع السماوية، وتمام النِّعم الإلهية كانت بالولاية العلوية المباركة، ولكن هذه الأمة كفرت بأَنْعُمِ الله، وجحدت ولاية ولي الله، وحُجته عليها، فضلَّت الطريق، وتاهت في صحراء الحياة الدنيا، والإمام الحسين عليه السلام، هو صاحب تلك الخيمة، وهو تلك النعمة التي أنعم الله بها على البشر، ولذا تراهم جميعاً من كل الأديان والمذاهب، والشعوب والألوان يأتون إليه ساعين ماشين على أقدامهم بكل سعادة وترحاب وعيون تفيض من الدَّمع حُزناً على المصاب، وفرحاً بهذا التوفيق الكبير ليسير مع إخوته في الإنسانية إلى رمز الإنسانية وكرامتها الحسين في كربلاء المقدسة به وبأبنائه وإخوته، وأصحابه.
يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه): “فهذه العلاقة والولاية الإيمانية، لا بدَّ أن تتكرس، فعلاقة الإنسان بالآخر، والتي تنبع كعلاقة طبيعية، كالعلاقة الأسرية، أو العشائرية؛ كل هذه العلاقات ليست معنوية، وإنما علاقة منافع قد تتأثر بالظروف، بينما العلاقة الإيمانية تبقى فوق كل ذلك، فالله تعالى يعبّر عن المؤمنين بالبنيان المرصوص، يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}، وهذه هي الغاية التي لا بدَّ أن نسعى من أجلها، في أن تكون علاقة أتباع الإمام الحسين عليه السلام ببعضهم البعض.
الإمام الحسين عليه السلام قضية، ودين، ومنهج حياة، بل هو حياة بالنسبة لنا ولعُشاقه من كل البلدان والجنسيات والقوميات، فهم جميعاً أخوة في المسير إلى الإمام الحسين في الأربعين
وهذا ما نراه في المراقد المطهرة، وخصوصاً عند قبر الإمام الحسين عليه السلام، حيث تتقاطر الوفود إلى كربلاء من كل مكان، وفي مختلف المناسبات، فالتقاء المؤمنين ببعضهم البعض، تكون العلاقة في أعلى درجاتها الإيمانية، وهذا ما يحدث في مسيرة الأربعين الكبرى، التي قلَّ نظيرها في التاريخ والعالم.
فالسائرون إلى كربلاء في مسيرة الأربعين، مختلفون بإختلاف مناطقهم، ولغة البعض مختلفة عن الآخر، لكنهم في الأساس يذهبون إلى رافد واحد، وروح واحدة، وهذا هو أعظم إنجاز يمكن للإنسان أن يحققه في حياته وهو (الالتحام الإيماني)، وهذا الالتحام الإيماني له تجليات واقعية، فالكل في زيارة الأربعين يجلس على مائدة واحدة، ولا فرق بين هذا وذاك، والكل – أيضاً – يُعطي، والكل يأخذ، ويأكل ويشرب.
وكلما زادت علاقة المؤمن بالإمام الحسين عليه السلام تَفيض هذه العلاقة لتشمل الموالين له، وهذا هو زيادة العطاء من الله تعالى للمؤمن… ورحمة الله تتجلى في نعمه على عباده، وفي دفع النقم عنهم، ورحمة الله تتجلى بقوة المؤمنين وعزتهم ومنعتهم، فكلما كان التكتل الإيماني أقوى، كان قوياً في الدفاع عن نفسه”. (كلمة السيد المرجع المدرسي، بتصرف بسيط).
فمسيرة الأربعين العملاقة، والمتطورة، والمتقدمة على كل الأفكار والمفكرين، وذلك لأنها نابعة من وإلى الإمام الحسين عليه السلام هناك في عمق الزمن القادم، والحضارة الآتية وليس هو ذكرى في أعماق التاريخ الذي يرجع إلى قرون طويلة، كما يعتقد ويرى بعض قصيري النظر، وسقيمي الفكر، الذين يتفلسفون ويقولون هجراً: أن الحسين قُتل منذ 1400 سنة وذهب شهيداً إلى الله فما الفائدة من نبش الماضي؟
تلك هي نظرتهم وذاك مبلغ علمهم وفهمهم، لا – أيها العزيز – الإمام الحسين ولد فينا يوم قتله الطغاة في يوم عاشوراء، فصارت عندنا كل أرض كربلاء، وكل يوم كأنه عاشوراء، فأينما كان طاغية، وحاكم جبار يجب أن يكون قباله ونصب عينية ماثلاً وشاخصاً مثالاً واضحاً صالحاً كالحسين عليه السلام، الذي علَّم الدنيا رفض الظلم والجور والطغيان.
فالحسين عليه السلام قضية، ودين، ومنهج حياة، بل هو حياة بالنسبة لنا ولعُشاقه من كل البلدان والجنسيات والقوميات، فهم جميعاً أخوة في المسير إلى الإمام الحسين في الأربعين، وهذا ما نراه ونلمسه في حل عام في مسيرة الأربعين المباركة، إلا أن هذا العام ستكون نسبة المشاركين من خارج العراق قليلة جداً وذلك لاختبار الأخوة العراقيين خاصة في هذه المسيرة المظفرة.
وذلك لأن بعض المغرضين تطاولوا عليهم في السنوات الماضية، فأراد الإمام الحسين أن يُبيِّن للجميع أن العراقيين هم أصحاب القضية وليسوا على هامشها، فهم أهل الأربعين وعشاق الإمام الحسين والناس تبع لهم في هذه الفضيلة والمكرمة الحسينية.
فكل التحية والتقدير لخدام الإمام الحسين، والسائرين إليه في الأربعين.