-
مقدمة تاريخية
لم يتفق المسلمون على أحد من الصحابة على اتفاقهم على الصحابي الجليل سلمان الفارسي، فهو ثقة مأمون من كل الطوائف الإسلامية، وكذلك لم يختلفوا بشيء من حياة وتاريخ الصحابة كاختلافهم بعمر، وحياة سلمان، وذلك لكثرة الروايات التي تتحدث عن حياته في صباه من حيث نشأته في قرى مدينة أصفهان التاريخية والعريقة الموصوفة بالجمال، المشهورة بالشعر والفلسفة.
قيل: أن أصله من فارس من أسرة نبيلة من أساورة فارس، أو من دهاقين جَي بالقرب من أصفهان ولد في رامهرمز، أو في أرزن قرب كازرون، ونشأ على دين المزدكيه بإسم (مابه) بن بودخشان (في قول بن منده) أو (روزبه) بن مرزبان.
وعاش عمراً طويلاً، واختلفوا فيما كان يسمى به في بلاده، وروي أن والد سلمان كان دهقاناً على أرض واسعة وكان يدين بالمزدكية (المجوسية ــ الزرادشتية)، وهي الديانة التي كانت سائدة في تلك البلاد قبل بزوغ فجر الإسلام.
والظاهر أنه (وكما روي) كونه من رامهرمز على ما رواه الشيخ منتجب الدِّين، فعن أبي زيد الأنصاري عن عوف عن أبي عثمان النهدي قال: قال لي سلمان الفارسي: أتعرف رامهرمز؟، قلت: نعم، قال: إني من أهلها).
وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: إنه رجل من أهل فارس، من رامهرمز، كما روي في مكان آخر: أن سلمان أصله من رامهرمز من قرية يقال لها جَي، ويقال بل أصله من أصبهان، وقيل: أن جَي هي أصبهان القديمة والحديثة تعرف باليهودية وهي الباقية إلى الأن، قال الحموي في معجم البلدان: جَي أصبهان القديمة وهي الأن كالخراب منفرد وتسمى الآن عند العجم شهرستان.
وهناك روايات عدة ذكرت منها في كتاب الأركان الأربعة رواية إكمال الدِّين، ورواية ابن أبي الحديد، ورواية ابن الأثير، وروايتان للحاكم النيشابوري، عن سلمان الفارسي، قال: كنتُ رجلاً من أهل جَي…”، والأخرى: بسنده عن زيد بن صوحان عن سلمان قال: كنتُ يتيماً من رامهرمز”.
وجاء في الخبر عن ابن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي قال: “كنتُ رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من قرية منها يقال لها: (جَي)، وكان أبي دهقان القرية، وكنتُ أحبُّ خلق الله إليه، فلم يزل بي حبه إيايَ حتى حبَسني في بيته كما تحبس الجارية، فاجتهدتُ في المجوسية“.
وجاء في الخبر عن أصله: هو أبو عبد الله سلمان ابن الإسلام أصله من أصفهان من قرية يقال لها جَي، وقيل من رامهرمز وكان مجوسياً وأسلم مقدم رسول الله بالمدينة.
وأما عن عمره فقيل أنه من المعمرين ففي بعض الروايات أنه التقى أحد حواري السيد المسيح، عليه السلام، وهو الذي دلَّه على طريق الحق، وجعله يتنقل من أصفهان إلى العراق، ثم الشام، ومنها إلى المدينة المنورة حيث باعه مَنْ استجار بهم لينقلوه إلى المدينة الموصوفة له، وباعوه من رجل يهودي وقيل امرأة يعمل في بستان لها من نخيل إلى أن قدم رسول الله، صلى الله عليه وآله، مهاجراً فما أن سمع به حتى ذهب إليه مردداً ليتيقن من العلامات التي وصفها له آخر مَنْ رافقه من علماء النصارى، فلما تيقَّن منها كلها وقع على قدمي رسول الله يعلن إسلامه، ويُساعده النبي، بفكاك نفسه من العبودية ثم يلتحق بركب الصحابة في أيام غزوة الخندق.
-
سلمان ابن الإسلام
هكذا مشهور عنه أنه كان يُعرِّف نفسه حيث يقول: “أنا سلمان بن عبد اللّه؛ كنت ضالاً، فهداني اللّه بمحمد، وكنت عائلاً، فأغناني اللّه بمحمد، وكنت مملوكاً، فأعتقني اللّه بمحمد، فهذا حسبي ونسبي، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله، أعطاه وساماً رفيعاً لم يُعطه لأحد من الصحابة وذلك حين رفعه إلى أن يكون من أهل البيت الذين لا يُقاس بهم أحد من الخلق، وذلك في القصة المشهورة عنه في تلك الأيام العصيبة على المسلمين حيث تناهى إلى سمع رسول الله، أو برسالة من العباس: أن أبا سفيان وقريش، وبالتعاون مع اليهود يُعدِّون العدة ويجمعون الناس، ويُحزِّبون الأحزاب لاستئصاله عن جديد الأرض.
عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: (لا تقولوا سلمان الفارسي، ولكنْ قولوا سلمان المحمّدي، ذلك رجلٌ منّا أهل البيت)
ولما استشار رسول الله أصحابه في الحرب، قال سلمان: “كنا إذا دهمنا عدو خندقنا على أنفسنا”، فأعجب الصحابة ذلك فاختار رسول الله مكان الخندق ثم وزَّع المهام على الصحابة، وحين اشتغل المسلمون بحفر الخندق، وكان النبيّ صلی الله عليه وآله قد قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، يعملون فيها، وكان سلمان قوياً في عمله، على كبر سنه، فاحتجَّ المهاجرون والأنصار، فقال المهاجرون: سلمان منّا، وقال الأنصار بل: سلمان منّا.. فقال رسول الله صلی الله عليه وآله: “سلمان منّا أهل البيت“.
وروي أن سلمان دخل مجلس رسول الله صلی الله عليه وآله ذات يوم، فعظَّموه، وقدَّموه، وصدَّروه؛ إجلالاً لحقِّه، وإعظاماً لشيبته، واختصاصه برسول الله فدخل رجل من قريش فنظر إليه فقال: من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟
فصعد رسول الله صلی الله عليه وآله المنبر فخطب، فقال: “إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى، سلمان بحر لا ينزف، وكنز لا ينفد، سلمان منّا أهل البيت”.
وعن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: “لا تقولوا سلمان الفارسي، ولكنْ قولوا سلمان المحمّدي، ذلك رجلٌ منّا أهل البيت“.
-
سلمان الولائي المخلص
هكذا جاء الكثير من الروايات بحق هذا الرجل الصحابي الكبير، عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السلام، وأئمة المسلمين، وكان من خواص أمير المؤمنين الذي كان له موقف مشهود في يوم السقيفة المشؤومة، حيث وقف وقال: “يا أبا بكر، إلى مَن تُستند أمرك إذا نزل بك القضاء، وإلى مَن تُفزع إذا سُئلت عمّا لا تعلم، وفي القوم مَن هو أعلم منك، وأكثر في الخير أعلاماً ومناقب منك، وأقرب من رسول الله قرابة وقدمة في حياته، قد أوعز إليكم فتركتم قوله، وتناسيتم وصيّته، فعمّا قليل يصفوا لكم الأمر حين تزوروا القبور، وقد أثقلت ظهرك من الأوزار لو حملت إلى قبرك لقدمت على ما قدمت، فلو راجعت إلى الحقّ وأنصفت أهله، لكان ذلك نجاة لك يوم تحتاج إلى عملك، وتفرد في حفرتك بذنوبك عما أنت له فاعل، وقد سمعت كما سمعنا، ورأيت كما رأينا، فلم يروعك ذلك عمّا أنت له فاعل، فالله الله في نفسك فقد أعذر مَن أنذر“. (الخصال: 46۳ ح4).
ومواقفه إلى جانب أمير المؤمنين وسيدة نساء العالمين، التي كانت تنادي ب(عمَّ سلمان) وهو الذي بعثه أمير المؤمنين حين قاده القوم بعمامته فرفعت يديها للدعاء عليهم، وفي الرواية ” التفت أمير المؤمنين إلى سلمان وقال: “يا سلمان أدرك فاطمة قبل أن تكشف عن رأسها وقل لها: بُعث أبوك رحمة للعالمين فلا تكوني سبباً في هلاك هذه الأمة“، ثم أقبل إليها سلمان وقال لها كما قال له أمير المؤمنين ، فقالت: “عم يا سلمان أما ترى ماذا فعلوا بنا؟! يا سلمان كسروا ضلعي صبرت، يا سلمان أسقطوا حملي صبرت، يا سلمان لطموا عيني صبرت، يا سلمان غصبوا إرثي صبرت، ويريدون أن ييتموا ولدي لا أصبر“.
-
سلمان إلى جنَّة المأوى
فهذا الصحابي الجليل الذي يستحق منا لقب: (جوهرة الصحابة) بكل جدارة لإخلاصه وثباته على الحق وعناده في الدفاع عن أهل الحق، ولذا أبعدته السلطة القرشية عن المدينة ليشترك في فتح المدائن ثم عيَّنه خليفة قريش والياً عليها إلى أن وافاه الأجل في 8 صفر 36 في خلافة أمير المؤمنين وأثناء وجوده المبارك في الكوفة.
وهذه آخر كرامة لسلمان ولم يفز بمثلها غيره من الصحابة أيضاً، رُوي عن جابر الأنصاريّ قال: صلّى بنا أمير المؤمنين عليه السّلام صلاة الصبح ثمّ أقبل علينا فقال: “معاشرَ الناس، أعظَمَ اللهُ أجرَكُم في أخيكم سلمان“، فقالوا في ذلك، فلبس عمامةَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ودُرّاعته، وأخذ قضيبه وسيفه وركب على العَضباء وقال لقنبر: عدَّ عشراً، قال: ففعلت، فإذا نحن على باب سلمان.
قال زاذان: فإذا أنا بأمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا زاذان، قضى أبو عبد الله سلمان؟ قلتُ: نعم يا سيّدي؛ فدخل وكشف الرداء عن وجهه، فتبسّم سلمانُ إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال له: مرحباً يا أبا عبد الله، إذا لَقِيتَ رسول الله فقُلْ له ما مرّ على أخيك من قومك“. (بقصة مفصلة في بحار الأنوار 372:22 ـ 373).
ففي الثامن من شهر صفر سنة 36هـ كانت وفاة سلمان المحمدي في المدائن فذهب إليه أمير المؤمنين فغسَّله، وكفَّنه، وصلى عليه، ودفنه، وعاد إلى الكوفة.