قبل أن نتظاهر ونحتج على سياسات حكوماتنا الحديثة العهد بالديمقراطية والمشاركة السياسية والعلاقة الايجابية بين الشعب والحكم، حريٌ بنا إلقاء نظرة على المشهد السياسي في البلاد الاكثر تجربة بهذا المجال، فالجماهير هناك تنزل الى الشوارع بالمئات او بالآلاف، أو تقيم وقفات احتجاجية تدعو الى مطالب معينة من الحكومة والبرلمان، أو تنهى وتندد بقرارات معينة تتعلق بالبيئة، أو الاجهاض، أو توفير فرص العمل، أو الضمان الصحي، أو مكافحة التمييز العنصري، وغيرها كثير من المطالبات، وفي كل الاحوال، نرى من خلال وسائل الاعلام، أن التظاهرات لا تسبب –على الاغلب- بتعطيل مصالح الناس، ولا تقطع الطرق، ولا حتى تملأ الشوارع بالنيران، إلا في حالة وجود مشكلة مسبقة بين المتظاهرين المنظمين من قبل جمعيات واتحادات مهنية، وبين الحكومة، مما يصنع حالة صدام عنيف الشوارع، فالمتظاهرون يرون أن الحكومة بالنسبة لهم مصدر تهديد لحياتهم ومصالحهم، ولذا يواجهونها بالحجارة والنار.
أما في العراق فيبدو أن ثمة تكتيك يتبعه بعض المنظمين للتظاهرات الاحتجاجية يهدف الى إشراك أكبر قدر ممكن من الناس مع التظاهرات الاحتجاجية، من خلال تسيير التظاهرة وسط الشارع الرئيسي المليء بالسيارات في وقت الظهيرة بحيث تسير السيارات المحملة بالموظفين العائدين الى بيوتهم، او النساء والاطفال العائدين من المستشفيات، وغيرهم، مع أقدام الشباب المتظاهرين، وهم خريجي الجامعات المطالبين بالتعيين وفرص العمل.
هذا ما رأيته أمامي قبل أيام في العاصمة بغداد، وهو منظر من مئات المناظر والحالات المستمرة طيلة اكثر من سنة من عمر الاحتجاجات الشديدة ضد سياسات الحكومة العراقية، بل والنظام السياسي القائم برمته في العراق، والقائم على المحاصصة الطائفية، وتقاسم السلطة والثروة بشكل بشع، ولا شكّ أن روح كل ابناء الشعب العراقي تزدحم بين الشباب المتظاهر الذي يعبّر عن آلام ومحن ومعاناة جميع افراد الشعب العراقي، وإلا؛ هل البطالة تختصّ بالخريجين فقط؟
وبما أن الشباب، ولاسيما طلبة الجامعات والخريجين منهم، يمثلون قلب المجتمع النابض، وعينه التي يبصر بها المستقبل، لابد ان يجسد هذا الشعور في الشارع ليكون بحق الممثل الشرعي والحقيقي لجميع مطالبات واحتجاجات ابناء الشعب، لا أن تتصرف بشكل يضيع عليها هذا الرصيد الكبير من خلال قطع الشارع وجعل السيارات تزدحم خلفهم بالمئات، في وقت كان بالامكان فتح ممر من الشارع للسيارات ويبقى الجزء الآخر للمتظاهرين.
خطورة ضياع فرصة التضامن الجماهيري نلاحظها في تجربة الاحتجاجات طيلة الأشهر الماضية، والتي نمر في الذكرى السنوية لانطلاق الاحتجاجات في بغداد وسائر المحافظات، وكان من أسوأ المظاهر في الشارع؛ حرق الاطارات وإشعال النيران بشكل يبعث عن الخيبة واليأس من تغيير حقيقي في البلد، علماً أن كل هذه الاحتجاجات لاقت تجاهلاً غريباً من الساسة الحكام في بغداد، سواءً في الحكومة، أو البرلمان، ولم يحصل شيء سوى تغيير شكل الحكومة، وبقي كل شيء على حاله.
المطالبة بالحقوق المشروعة أمر واجب على كل عراقي غيور وحُر، وممارسة الضغوط لتغيير الواقع السيئ في قطاع الخدمات والصحة والتعليم والقضاء وسائر القطاعات، إنما المهم الطريقة والسبل الكفيلة لتحقيق ذلك، وعندما نرى مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة الحالية مهتمٌ بأمر التغيير في الواقع الاداري بالبلد بالقبض على متهمين بالفساد وحجز البعض من السفر وغيرها من الاجراءات العقابية تدفعنا للاستفادة من هذه الفرصة لمواكبة هذه الخطوات بشكل سلمي وحضاري يستقطب اكبر عدد من الجماهير في الشارع وتحمله المسؤولية حتى وإن لم يكن معنياً بالأمر، ويعيش بطريقة مريحة.
إن الطريقة الحضارية للرفض والمعارضة والمطالبة بالحقوق هي التي تدفع الناس للانضمام الى هذه الحركة لانها تعكس فطرة الانسان الميّالة الى النظام والسلم والاستقرار، وهي التي تشكل ورقة ضغط قوية على النظام الحاكم الذي سيجد امامه مطالب جماهيرية عامة وليست مطالب الشباب الجامعيين فقط.