-
تقديم
الدِّين في هذه الدنيا أصل أصيل في كل زمان ومكان، فأول مخلوق، وأبو البشر وأصلهم الطيب هو نبي الله آدم عليه السلام، ولذا جعله الله أمر فطري فطر الناس عليه، لا سيما الأصول التي يُبنى عليها الدِّين، وأصلها التوحيد، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، في قول الله عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، قال: “فطرهم على التوحيد“.(الكافي: ج2 ص19)، وفي الحديث النبوي المشهور قوله صلى الله عليه وآله: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه“.
قال في النهاية فيه: “كل مولود يولد على الفطرة، الفطر: الابتداء والاختراع، والفطرة منه الحالة كالجلسة والركبة، والمعنى أنه يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيأ لقبول الدِّين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد، ثم تمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لآبائهم، والميل إلى أديانهم، عن مقتضى الفطرة السليمة”. (بحار الأنوار: ج 64 ص133).
علينا ألّا نقصّر في نشر حقائق النهضة الحسينية والتي تمثّل رسالة المصطفى صلّى الله عليه وآله، ومن قصّر في هذا الطريق فإنّه يظلم البشرية جمعاء؛ ذلك لأنّ العالَم كلّه بحاجة اليوم إلى دروس كربلاء؛ دروس الرحمة الشاملة والعزّة والكرامة والحرية
وجميل تعليق العلامة ابن أبي الحديد في شرح النهج على هذا الحديث الشريف حيث يقول: “أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي خلقه فيه، وبصحة الحواس، والمشاعر، لأن يعلم التوحيد، والعدل، ولم يجعل فيه مانعاً يمنعه عن ذلك، ولكن التربية والعقيدة في الوالدين والإلف”.
فالإنسان السوي، والطبيعي الذي يُحافظ على نقاء فطرته وصفاء روحه لا شك ولا ريب سيكون إنساناً متديناً، وعارفاً بأن له خالقاً، ورباً يرجع إليه، ولكن المشكلة العويصة هي في المجتمع، والتربية، والعادات والتقاليد، مع الشياطين المتربصة بهذا المخلوق الطاهر من أجل أن تحرفه عن الدِّين الحقِّ، وصراط رب العالمين الذي فُطر عليه وبيَّنه رُسله وأنبياءه عليهم السلام وكتبه المختلفة.
-
نهضة الإمام الحسين
ونهضة الإمام الحسين عليه السلام كانت نهضة دينية قرآنية بكل ما في الكلمة من معنى ومبنى، وذلك لأنه قال منذ الأيام الأولى لنهضته: “وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امه جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“. (بحار الأنوار: ج 44 ص330).
فالإصلاح المنشود من المولى عليه السلام، هو إصلاح عام وشامل للأمة بإعادتها إلى إمامها الحق الذي عيَّنه الله تعالى ونصَّبه رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي أعطاه الله علم القرآن الحكيم تفسيراً وتأويلاً، والتشريع كله حلاله وحرامه، وائتمنه على دينه ورسالته وهي الإسلام بالمعنى الشامل له كما طرحه القرآن الحكيم: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. (آل عمران: 19).
فقيام الإمام الحسين عليه السلام، لتصحيح الخطأ الذي ارتكبته سلطات قريش الباطلة والتي أوصلت مثل يزيد الشر إلى حكم الأمة الإسلامية، وفيها إمامها، وسبط نبيها، وخامس أصحاب الكساء الذي يتقطَّر من أردانه النزاهة والطهارة، لأنه الله تعالى يقول فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. (الأحزاب: 33).
وقال عن هذا الصبي الأشر يزيد وعائلته التي كانت أبغض الخلق إلى رسول الله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}. (الإسراء: 60).
إن الدِّين الإلهي الحق هو دين الروح والإطار، فليس البرّ المطلوب لدى الله مجرد التوجه قبل المشرق والمغرب في الصلاة، بل المطلوب محتوى الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتدعو إلى الخروج من شح الذات ودفع المال في سبيل الله لمصلحة الطبقات الهشّة، والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء، والصدق في المواقف
ولذا أعلنها سيد الإباء، وسيد الشهداء منذ اللحظة الأولى من المدينة أمام الوالي الذي طلب منه البيعة ليزيد، فقال: “إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله“. (اللهوف ص ١٠ والبحار: 44 / 324).
فالإسلام أصبح في خطر حقيقي، ومهدد في وجوده، ويحتاج إلى نهضة تُرجع الأمة إلى دينها وربها وكتابه الحكيم، قبل أن يمحقها، ويمحوها صبي النار الأموي، الذي ورث كل الأحقاد الجاهلية وأضاف إليها أصله المشكوك فيه، وتربيته النصرانية في أخواله الكلبيين، فجاء عاقداً العزم على دفن الإسلام، وقتل المسلمين وإعادة العرب إلى الجاهلية من جديد.
فالسياسة الأموية كانت تقتضي ضرب الدِّين بالحاكم، لأن معاوية صنع هالة حول الحاكم بالأحاديث الكاذبة التي اخترعها له أبو هريرة والمغيرة وسمرة بن جندب وغيرهم، ليوهم الأمة بأنه ظل الله في الأرض، وأن حكومته من الله وليست من الأمة، ولذا حرام عليهم أن يُعارضوه، أو أن يرفضوا أوامره وإن كانت مخالفة لنصِّ القرآن والسُّنة لأنه هو الحاكم بأمر الله ولا يُنازع.
يقول سماحة المرجع الدِّيني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله)، في كلمته التوجيهية الأسبوعية: “إن الدِّين الإلهي الحق هو دين الروح والإطار، فليس البرّ المطلوب لدى الله مجرد التوجه قبل المشرق والمغرب في الصلاة، بل المطلوب محتوى الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتدعو إلى الخروج من شح الذات ودفع المال في سبيل الله لمصلحة الطبقات الهشّة، والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء، والصدق في المواقف”.
ثم أشار إلى أن نهضة سيد الشهداء عليه السلام، كانت تهدف فضح كل مدعٍ للدِّين ومستأكلٍ به، وتعرية كل من يحمل راية الدِّين من أجل السلطة والثروة وتكريس شخصيته، وذلك ميراث نهضته المباركة في الأمة، مبيّناً أن السلطات الأموية كانت قد حوّلت الدِّين إلى مجرد شعارات فارغة، وإلى تشريعات تخدم مصالحهم وتضر المستضعفين، الأمر الذي كان يتعارض مع الفطرة السليمة، مما جعل الناس يخرجون من الدِّين، لولا قيام أئمة الهدى من عترة النبي بمسؤولية تطبيق محتوى الدِّين الحقيقي، وما نجده اليوم من محتوى الدِّين فهو ميراث تضحيات عترة النبي عليهم السلام.
-
النهضة الحسينية الخالدة
ولهذا نجد أن بني أمية بطغاتهم، والعباسيين وحكامهم، وبني عثمان وأجلافهم، ذهبوا إلى مزابل التاريخ، ولم يُذكروا إلا باللعنات تلحقهم، وهذه النهضة الحسينية المباركة، كيف خلدت رغم أنوفهم جميعاً، ولم تواجه ثورة، أو عائلة، أو طائفة ما واجهته شيعة الحسين وعشاقه من صنوف القتل، والتعذيب، والتشريد، والمنع، والقطع، والسلب، والنهب، ولم يتركوا إمامهم المظلوم، بل دفعوا كل ما استطاعوا ليُحافظوا على هذه النهضة التي تُعطيهم الشرف والعزة والكرامة والدِّين الحق.
وجميل ما يقوله سماحة السيد المدرسي: “كل داعٍ ينتهي بانقضاء أجله إلّا دعوة إلهية كدعوة الإمام الحسين عليه السلام؛ لأنه بشهادته الكبرى، وبظلامته العظمى، وبما له في أفئدة المؤمنين من حرارة لا تنطفئ، وبما تتجدد من مصائبه كل عام، وبما تُنصب لعزائه من منابر الذكر، وتُرفع باسمه من رايات الكرامة، إنّه – بكل ذلك – لا يزال مصباح هدى لكل الأجيال وفي كل الآفاق.
وهكذا كان على كل مسلم ومسلمة أن يصبحا دُعاة باسمه ولا سيما العلماء، والخطباء، والشعراء، وأهل الهيئات والمواكب الحسينية، إنهم – جميعاً- دعاة إلى الصلاح والإصلاح، ومبشِّرون برسالة سيد الشهداء عليه السلام.. وهكذا كانت سيرة أسلافنا الصالحين، فإنهم لم يكونوا مجرد مستمعين لمآسي السبط الشهيد، بل كانوا دعاة صادقين باسمه وحاملين لرسالته؛ كلٌّ بطريقته وبالوسيلة المناسبة له.
وإذا كان العالَم اليوم يشهد مدَّاً حسينياً، فإنّه جاء نتيجة هذه الدَّعوة الحق، وهذه المنابر والمجالس والهيئات التي لا تفتأ تذكّرنا بكربلاء وبعاشوراء، وبدروس البطولة التي ورثناها من الملحمة الكبرى.. بلى؛ وعلينا أن نجدِّد أساليب الدَّعوة اليوم حتى تتسع للوسائل الحديثة من فضائيات، ومجالات الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وأجهزة الهاتف النقّال؛ وغيرها.
إنَّ دعوة الإمام الحسين عليه السلام كانت دعوة عالمية، فهو كجدّه، صلى الله عليه وآله، رحمة للعالمين، كما قال ربنا سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.(الأنبياء: 107).
وعلينا ألّا نقصّر في نشر حقائق النهضة الحسينية والتي تمثّل رسالة المصطفى صلّى الله عليه وآله، ومن قصّر في هذا الطريق فإنّه يظلم البشرية جمعاء؛ ذلك لأنّ العالَم كلّه بحاجة اليوم إلى دروس كربلاء؛ دروس الرحمة الشاملة والعزّة والكرامة والحرية”. (الإمام الحسين نهج حياة وسفينة نجاة؛ السيد محمد تقي المدرسي: ص15).
تلك هي رسالة النهضة الحسينية المباركة، وهي ذاتها وبحرفيتها دين جده المصطفى، بقرآنه الحكيم وسُنته المطهرة، وهما مضمون حديث الثقلين المتواتر في هذه الأمة (كتاب الله وعترتي)، وهما القرآن الصامت، والقرآن الناطق، تفسيراً وتأويلاً وقيادة وسيادة، لأن الإمام الحسين عليه السلام هو (إمام قام أو قعد)، وهو وريث الأنبياء من آدم، وحتى جده الرسول الخاتم، ورث رسالتهم على امتداد التاريخ وبلورها في نهضته الشريفة ليُعيد الأمة إلى الدِّين، وتنشر الأمة دين الله في كل الأرجاء بمنبر الإمام الحسين ودعوته، ودروس نهضته المباركة.
وها نحن نقف على أعتاب مسيرة العشق الحسيني، والكرامة الإنسانية، مسيرة الأربعين العالمية، فعلينا جميعاً أن نكون دعاةً للنهضة بغير ألسنتنا بل بأخلاقنا الرسالة الراقية، وأعمالنا الإيمانية، ليكون ذلك داعية لجميع الشعوب والأمم أن يأتوا إلى الحسين فيعرفوا الحق ويذهبوا في أرجاء المعمورة يُحدِّثون الناس والشعوب عن عظمة الحسين الإمام، وعشقه من شيعته الكرام.