وبث الروح والعبادة في المسلمين
-
تقديم روحي
الإنسان مخلوق من مدة وروح، من قبضة تراب مهين، ونفخة من رب العالمين، فمن طبيعته الترابية يخلد إلى الأرض، ولكن بنفخته الروحانية يهفوا إلى السماء، ولذا تراه يعيش بين نزعات الجسد، ونفحات الروح، لأن كل شيء ينزع إلى طبيعته وأصله الذي خُلق منه.
ولذا كان غذاء الجسد الترابي هو كل ما ينبت، أو يعيش على التراب، وأما غذاء الروح فهو كل ما ينزل من السماء من الروحانيات، كالرسالات التي فيها منظومة متكاملة من القيم التي تغذي الروح بكل ما تحتاج إليه في رحلتها في هذه الحياة.
وهذا ينطلق من الأفراد ليعم المجتمعات البشرية كلها، فما ينطبق على الفرد إذا وسَّعناه يتطابق مع المجتمع لأن المجتمع ما هو إلا مجموع أفراده، وأسرهم، فالفرد عام بعظمته، والعالم فرد بحقيقته، وهذا ما نقلوه عن أمير المؤمنين، عليه السلام بقوله:
أتحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
وأهم وأعظم أغذية الروح هي العبادة والطاعة لله رب العالمين، وذلك بما نطق به القرآن الحكيم بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}. (سورة الذاريات: 58).
كان الامام السجاد يعلم الناس ولكن لا سبيل لذلك فكان يشتري العبيد والإماء ويُربيهم ويُعلمهم وعندما يرى منهم رشداً كان يجمعهم – عادة في العيد – ثم يُطلق سراحهم ليبثوا علومه وسيرته في الأمة الإسلامية
فالبشر خُلقوا للعبادة، والله غنياً عنهم وعن عبادتهم، ولكن أوجبها عليهم ليُنمِّيهم، ويُزكِّيهم، ويرفعهم إلى جوار قدسه الذي هبطوا منه مع أبيهم آدم، عليه السلام، حين سوَّل له إبليس، وأقسم له كذباً أنه ناصح وأمين، وما هو إلا كذاب، دجال، ليس فيه من الصدق والأمانة شيء.
فالعبادة والطاعة والخضوع والخشوع هو ما يُبلور شخصية الإنسان، ويجلو روحه ويسمو بها إلى مصافِّ الملائكة المقرَّبين، فقد ورد في الحديث الشريف قال صلى الله عليه وآله: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد“، لأن السجود هو وضع أشرف ما فيك، على الأرض طاعة لربك، وبه امتحن الله ملائكته، وإبليس معهم، حين أمرهم بالسجود لآدم، فأطاعوا وعصى لأنه تكبَّر ورفض السجود ناظراً إلى آدم الذي جعله الله قبلة لهم في السجود، وغفل عن الأمر الإلهي، وأراد أن يعبد الله بهواه وراحته، فأوحى الله إليه: “إِنَّمَا أُرِیدُ أَنْ أُعْبَدَ مِنْ حَیْثُ أُرِیدُ لَا مِنْ حَیْثُ تُرِیدُ“؛ (تفسیر القمي: ج1/42)
وأمير المؤمنين عليه السلام يُحذِّر من الكِبر وعدم الطاعة بقوله في النهج الشريف: “فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اَللَّهِ بِإِبْلِيسَ؟ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ اَلطَّوِيلَ وَجَهْدَهُ اَلْجَهِيدَ وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اَللَّهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ لاَ يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي اَلدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي اَلْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اَللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟”. (نهج البلاغة: خ190 القاصعة).
-
الإمام علي السجاد
وربما لهذه الخصلة الرائعة في بني آدم التي اتصف فيها الإمام الرابع من أئمة المسلمين الإمام علي بن الحسين عليه السلام، الذي شهد مآسي كربلاء بكل ما فيها – ويا لعظيم ما جرى فيها – وزاد عليهم بالمرض الذ ألمَّ به، ثم كان قائد ركب السبي من كربلاء الملحمة الخالدة، إلى الكوفة المدينة الظالمة الخائنة، ومنها إلى الشام يقطعون كل هذه المسافات والمرور بأربعين منزلاً حتى وصل إلى الشام وأُدخل من الباب الشرقي ووقف على باب الساعات من ثقل النبوة والإمامة بحضور عمَّته فخر المخدرات العقيلة الهاشمية السيدة زينب الكبرى عليها السلام.
وهو صاحب تلك المواقف والخُطب التي زلزلت عرش الظالم الطاغية يزيد في بيته وعاصمته وفي الملأ منه، حيث ما زال الزمان والأجيال تُردد تلك الكلمات التي أقطعها عليه الطاغية لما ضجَّ الناس بالبكاء وهو يقول: “أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا…”
فكان الإمام في عصره يُمثِّل الإمام والأمة معاً، قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: “أرتد الناس بعد قتل الحسين بن علي إلا ثلاثة؛ أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا“، يقول السيد جعفر مرتضى: ” هو ارتداد الناس عن أهل البيت، عليهم السلام، وابتعادهم عنهم خوفاً من يزيد، وبني أمية، ويأساً من أن يتمكن أحد من أهل البيت، بعد فاجعة كربلاء من أن يكون له شأن وموقع بارز في الأمة”.
كانت الأدعية وسيلة تربية الناس على التقوى والفضيلة والإيثار والجهاد، وذلك بما تضمَّنت من مفاهيم متسامية، ومواعظ ربانية، فكان النخبة من أبناء الأمة يتغذون عليها كما يتغذى النبات الزاكي من أشعة الشمس
وزاد الطاغية يزيد على فاجعة كربلاء، بوقعة الحرَّة، في المدينة المنورة، حيث قتل عشرة آلاف فيها واستباحها ثلاثة أيام لجيشه، ثم قصف الكعبة بالمنجنيق ودمَّرها على رأس ابن الزبير وجيشه، فأُصيب الأمة الإسلامية بانفصام في الشخصية الاجتماعية لها، وكادت أن يموت فيها دينها، وتخسر روحيتها في ظل هذا الظلم والعَسَف الأموي الشديد، وليس فيها إلا البقية الباقية من آل محمد، صلى الله عليه وآله، الذين جعلهم الله أوتاد دينه وأركان توحيده، ولكن ما الذي يمكن أن يصنعه الإمام زين العابدين بأمة تعيش تلك الحالة من الانهيار؟
-
الإمام زين العابدين يُحيي المسلمين
بما أن الإمام علي بن الحسين عليه السلام هو الإمام المنصوص، وهو المفترض الطاعة على العباد ولكن لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه فما الذي يمكن أن يُقدمه لهذه الأمة المنكوبة بسياستها؟
كان دور الإمام السجاد عليه السلام ينقسم إلى أربعة أدوار رئيسية نُلخصها بما يلي:
- إحياء مراسم الروحانية والعبادة فيها فكان فيها زين العابدين ليكون قدوة لهم.
- تعليم الناس ولكن لا سبيل لذلك فكان يشتري العبيد والإماء ويُربيهم ويُعلمهم وعندما يرى منهم رشداً كان يجمعهم – عادة في العيد – ثم يُطلق سراحهم ليبثوا علومه وسيرته في الأمة الإسلامية.
- بيان وتبيين الحقوق التي هدرها وأضاعها السلطان الغاشم، في الأمة فكتب لهم رسالة الحقوق وهي أعظم وثيقة في التاريخ بهذا الخصوص.
- وضع منهج ليتقرب العباد إلى ربهم، وذلك بالدعاء حيث أن الدعاء من أعظم العبادات التي أُمرنا بها من الله تعالى، فكانت رسالة الإمام زين العابدين، عليه السلام هو إعادة الناس إلى ربهم، وتعليمهم كيف يتقربون إلى الله ويعودون إليه بواسطة الدعاء..
وهنا نأخذها من معدنها، من سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) حيث يقول: ” الدعاء مُخُّ العبادة، ولباب التواصل، وجوهر الصلاة، وكل دعاء حميد إلَّا أن الله تعالى أنعم علينا بأن هدانا لتَعَلُّم أدعية أوليائه، وبما أورثنا من أدعية النبيِّ وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام، ويبدو أنها جميعاً أدعية تَوارثها عباد الله من الأنبياء، ومن ثم من الوحي الإلهي؛ أو لا أقل هي تجلِّيات الوحي على أفئدة الهداة من عباد الله المقرَّبين، وانعكاسٌ لمعارف الوحي على قلوبهم الزكية وألسنتهم الصادقة.
فالأدعية المأثورة- إذاً- هي الوجه الآخر للوحي، وهي ظلاله الوارفة، وأشعته المنيرة، وتفسيراته وتأويلاته.. وهكذا كانت الأدعية كنوز المعارف الرَّبانية، وتِلاد الحِكَمِ التي لا تنفد، وفي طليعتها أدعية الصحيفة السجادية التي جمعت من كلمات الإمام زين العابدين عليه السلام.
فإلى ماذا كان يهدف الإمام من تلك الأدعية؟ لا ريب في أنها كانت شعاعاً من قلبه المنير بالإيمان، وفيضاً من فؤاده المُتَّقِدِ بحب الله، وكانت كلماتُها تتزاحم على شفاه رجل كاد يذوب في هيام ربِّهِ، ولم تكن تَكَلُّفاً منه.
بلى، قد حققت أهدافاً عديدة أبرزها تعليم عباد الله كيف يدعون ربَّهم العظيم، وكيف يتضرعون إليه، ويتحببون إليه، ويلتمسون رضاه، ويتعرفون على أسمائه الحسنى، وكيف يطلبون منه حوائجهم، وماذا يطلبون؟”. (الإمام السجاد (عليه السلام) قدوة و أسوة: ص63).
إلى أن يقول سماحته: ” كانت الأدعية وسيلة تربية الناس على التقوى والفضيلة والإيثار والجهاد، وذلك بما تضمَّنت من مفاهيم متسامية، ومواعظ ربانية، فكان النخبة من أبناء الأمة يتغذون عليها كما يتغذى النبات الزاكي من أشعة الشمس.
ولا تزال أدعية الإمام عليه السلام، التي جُمعت في الصحيفة السجادية، لا تزال هذه الأدعية ذلك الزخم الإيماني الذي يوفر لنا الروح الإيمانية في الأيام العصيبة.. ولا أظن- بعد القرآن- أنَّ كتاباً يكون تسليةً لفؤاد المحرومين، وثورةً في دماء المستضعفين، ونوراً في أفئدة المجاهدين وهدى على طريق الثائرين كالصحيفة السجادية، فسلام الله على تلك النفس الزَّكيَّة التي فاضت بها، وسلام الله على من تبتَّل بها مع كل صباح ومساء”. (الإمام السجاد (عليه السلام) قدوة و أسوة: ص64 بتصرف).
تلك كانت رسالة الإمام الرابع من أئمة المسلمين، الذي كان في عصر يُحكم مساحات شاسعة باسم الإسلام ولكن ندر فيه المسلمون لأنهم كانوا يعيشون في ظل طاغوت بني أمية الذي جثم على صدر الأمة لقرن من الزمن أحال خضراءها يباساً، وعمارها خراباً، ودينها نفاقاً، فكان من رحمة الله تعالى فيها وجود الإمام السجاد، عليه السلام ليُعطيها تلك الدفعة الروحانية، ويُعلمها طعم العبادة والطاعة لله وليس للطاغوت، فكان دابه ولخمس وثلاثين سنة يبكي في النهار على ماساة كربلاء، ويحيي الليل في الصلاة والدعاء والضراعة لله تعالى.
فآلاف التحية والثناء على تلك الروح الطيبة لمولانا وإمامنا زين العابدين وسيد الساجدين.