بصائر من زيارة عاشوراء* [3]
يقول الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. (سورة الممتحنة/ آية 4-6).
كل إنسان يحلق في سماء الإيمان بجناحين؛ التولّي لأولياء الله، والتبرؤ من أعداء الله، فلو اختل أحد هذين الجناحين، لما استطاع الإنسان أن يحلق في سماء الولاية، ومن ثمّ يعجز عن تحديد المسير على الطريق الصحيح.
والقرآن الكريم يبين لنا هذه الخاصية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، ثم يوضح من نتولّى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، ثم يقول تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، فهذا هو التبرؤ.
وفي زيارة عاشوراء نتبرأ أيضا، ونلعن الظالمين للإمام الحسين، عليه السلام، وقد ورد في بعض فقرات زيارة عاشوراء:
“فَلَعَنَ الله اُمَّةً أَسَّسَتْ أَساسَ الظُّلْمِ وَالجَوْرِ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ وَلَعَنَ الله اُمَّةً دَفَعَتْكُمْ عَنْ مَقامِكُمْ وَأَزالَتْكُمْ عَنْ مَراتِبكُمُ الَّتِي رَتَّبَكُمُ الله فِيها وَلَعَنَ الله اُمَّةً قَتَلَتْكُمْ وَلَعَنَ الله المُمَهِّدِينَ لَهُمْ بِالتَّمْكِينِ مِنْ قِتالِكُمْ”.
فلماذا هذا اللعن؟
أليس الذين نلعنهم بشر، وهم أيضا خلق؟
التبرؤ مقدمة واجبة للتولّي
في الآيات التي تصدرت المقال، قرأنا أن الله تعالى، أمرنا أن نتأسى بإبراهيم، عليه السلام والذين معه، وليس فقط علينا أن نتأسى بهذا النبي العظيم، بل المؤمنين ايضاً الذين تبرأوا من الكفار ومن أفعالهم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}، فالأسوة والقدوة الحسنة هؤلاء، الذي يجب أن نكون مثلهم.
الإنسان حينما يحب يعمل بما يعمله المُحب، وحينما يبغض، يبتعد ويتنفر عمن يبغضه، ومن هنا ترى أن رسول الله، صلى عليه وآله، يأمرنا بأن ننهى عن المنكر، بأي وسيلة متاحة، يقول النبي الأكرم: “من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، فما هو أثر التبرؤ من المنكر بالقلب؟
ذلك أن الإنسان مجبول على اتباع الآخرين، فإذا رأى من يقوم بعمل ما، فهو يحب القيام به، فإذا كان العمل سيئاً فقد يدعوه حبّهُ الى اتباعهم، ولهذا لابد من البراءة القلبية حينما لا يستطيع أن يغير بلسانه أو بيده، يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “لا تكونوا إمّعَة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا”، وهذه وسيلة الإبتعاد عن الإنحراف.
إن الإنحراف عن الجادة سيرة الكثير من البشر، بسبب عوامل الانحراف الكثيرة، وهذه العوامل تضغط على الإنسان، فهناك الدولة المنحرفة، والاقتصاد المنحرف ، والمجتمع المنحرف، والثقافة المنحرفة، وتحدي الإنحراف ليس سهلا، لأنه بحاجة الى قوة هائلة، خصوصا وأن الكثير ينجرفون مع الظروف الاجتماعية العامة.
فمواجهة هذه الحالة ـ حالة الانحراف والضلالة ـ تحتاج الى أن ننكر الظلم ثم نتبرأ منه، ثم نلعنه، فالذي لا يلعن الظالم قد يُظلم، وقد يرضى بمن يظلم، والرضا بظلم الظالم مساهمة في ظلمه، فالرضا عن الحكومة الظالمة التي تنهب أموال الناس، وتقتلهم هو مشاركة لها، ويُدخل الانسان مدخل الظَلمة فيها، وقد قالها الامام الحسين، عليه السلام، في احدى كتبه الى أهل الكوفة قبل وصوله كربلاء، وهو ينقل عن جدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله: “من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يُدخله مدخله”.
ومن أجل أن يحافظ الإنسان على نفسه نقيةً طاهرةً، بعيدة عن الضلالة، لابد أن يلعن الظالمين، وزيارة عاشوراء تحتوي على فقرات ليست بالقليلة تدعو الى حالة التبرؤ من الظالمين، فمن يتولّى الإمام الحسين، عليه السلام، هل يمكن أن يحب يزيدا؟
عدم التبرؤ يكرر أمثال يزيد
في الطريق لإصلاح النفس، لابد أن يبدأ الإنسان ببغض المنكر، من قبيل الظلم، والخيانة، والكذب، فإذا أُنكر المنكر في القلب أيّاً كان، يأتي الدور اللسان باتخاذ الموقف المناسب لذلك المنكر، قال أمير المؤمنين عليه السلام: “أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وآله، أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مُكفهرّة”.
فهل يمكن أن يضحك الإنسان المؤمن بوجه القمّار، او الخمّار؟!
الإمام الحسين عليه السلام، لايقاس به أحد، فالذي يقول: “هذا حسين زمانه”، فهذا يُعد من المجاز، نعم؛ هناك من يتبع منهج الإمام الحسين، لكن في المقابل نستطيع أن نقول: “فلان يزيد زمانه”، لأن يزيد يتكرر، في كل زمان، وفي كل مكان، فإن تتبرأ من يزيد التاريخي (يزيد بن معاوية)، ثم تبايع يزيد زمانك، وتسمع لكلامه، وتحتارب تحت لوائه، فهذا تناقض واضح.
فيكف سيحشر هذا الإنسان يوم القيامة؟ مع من؟
التبرؤ من أعداء الله جزء أساسي من الدين، لكن البعض قد يُخدع ويقول: هؤلاء هم بشر مثلنا، فلماذا نتبرأ منهم؟ لكن الحقيقة أن هؤلاء الطغاة هم قردة وخنازير على شكل إنسان، هناك مثل شائع يقول: “أذا كانت حاجتك عند الكلب امدحه”، لكن هذا غير صحيح، وهذه ثقافة التخدير والتمييع للأمة.
الذين غصبوا آل محمد، عليهم السلام، وأزالوهم عن مراتبهم كانوا يقولون: “إن الإمام علي إنسان عادل، لكن موقعه في المسجد فقط”!، فعندما أبعدوا أهل البيت عن موقعهم الحقيقي، انتهى الأمر بقتل العترة الطاهرة، فأول خطوة كانت هي إزالته عن مرتبته، والخطوة الثانية تمثلت بإعداد الجيوش، ثم انتهت بقتلهم.
فالإنسان عندما ينحرف عن الطريق يهبط إلى أن يصل الى القاع، كمثل الذي ساق رأس الإمام الحسين، عليه السلام، وهو يخاطب عبيد الله بن زياد:
إملأ ركابي فضة أو ذهبا
إني قتلت السيّد المُحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فلما سمعه ابن زياد، قال له: إن كنت تعلم أنه خير الناس، فلم قتلته؟! اذهب لا عطاء لك!!
إن الله –تعالى- يخلق هذا المجرم على هئية بشر، لكنه تحول بهذا الفعل الى أسوأ من وحش مفترس، وتردى الى أسفل السافلين، يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}. ولهذا لابد على الإنسان أن يحدد موقفه، ومع من يكون، فالمواقف هي التي تحدد هوية الانسان وانتماؤه، لا الأقوال المجردة من الأفعال.
“يا أَبا عَبْدِ الله إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ”، هذه كلمة عظيمة، مقتبسة من قوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وهذا يعني أن على الإنسان أن يتمسك بالولاية، ويدعو الله أن لا يموت إلا وهو عليها، وكذلك التبرؤ من أعداء الله الى يوم القيامة، فالمؤمن هو مع هذه الولاية العظيمة في حياته، وعند موته، وإلى يوم القيامة.
وحينما نطلب شفاعة الإمام الحسين عليه السلام، فمعنى ذلك أن نكون معه: “اللّهُمَّ ارْزُقْنِي شَفاعَةَ الحُسَيْنِ يَوْمَ الوُرُودِ”، ففي الدنيا يجب أن نكون معه، ومع أوليائه، وحربٌ على أعدائه حتى نحظى بهذه الشفاعة.