عَاشُورَاءُ نَهضَةٌ للحَيَاةِ الكَرِيمَةِ لا للموت -3
الضمير الغائب قهراً
الله الخالق سبحانه وتعالى صنع هذا الإنسان وأبدعه ليكون خليفة في أرضه، وشاهداً على مخلوقاته، وعظيم خلقه وإبداعه سبحانه وتعالى، ولذا كرَّمه، وفضَّله على غيره تفضيلاً كبيراً، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. (سورة الإسراء: 70).
ولكن الخالق جعل لهذا الإنسان المصنوع بدقة، وعلم، وتقدير، غاية في ذلك كله، فقد خلقه بميزان، ليكون هو ميزان، ومعيار هذا الكون، ولكن ليس الجميع بنفس السوية، لأن سنَّة الاختلاف في الألوان والأشكال والقوى الظاهرية والباطنية هي من سنن الحياة لتسير الحياة وفق ما أراده الخالق بل جعل لهم مثالاً كاملاً في الإنسانية فأكمل وأتمَّ خلقه من كل النواحي ليكون مثالاً له في البشر، وهو محمد المصطفى وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم جميعا.
وبنفس الوقت سلَّح الإنسان بسلاحين داخلي وخارجي، لضمان استقامته على السُّنن الإلهية، وكان ذلك منه تفضُّلاً عليه، بأن جعل فيه العقل (وهو نبي من الداخل)، وأرسل له الأنبياء والرسل عليهم السلام، ليكونوا (عقول من الخارج)، فكان لا بدَّ لهذا المخلوق المفضَّل أن يُطابق بين رسالات السماء، وتشريعاتها، والعقول السليمة وأحكامها، ولا يمكن أن نستغني بأحدهما عن الآخر، ولذا لدينا قاعدة يقول: (ما حكم به العقل حكم به الشرع) لأنهما متكاملان.
كما أنه سبحانه جعل في الإنسان مراقباً من ذاته ليكون فيه منبهاً له يعمل إذا خلا مع نفسه وذلك هو ما نسميه ونُطلق عليه (الضمير)، أو الوجدان، وقالوا فيه: ” الضمير أو ما يسمى الوجدان؛ هو قدرة الإنسان على التَّمييز فيما إذا كان عمل ما خطأ أم صواب أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل، وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالنَّدم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة، أو النزاهة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية”.(موسوعة الوكيبيديا).
انطلاقاً من هذا الشهر، يجدر بنا أن نفعـّل ضمير الأمة لمواجهة المشاكل الحادة التي تعيشها، وان نجعلها بحول الله تعالى أمة وسطى، وشاهدة على الكرامة والعدالة والتحرر للبشرية جميعاً وفي كل أرجاء العالم
فالضمير هو الذي يأمرنا بالالتزام بمنظومة المبادئ، والقيم الأخلاقية التي يجب أن تُسيطر أو تتحكم في أعمال البشر وأفكارهم، وبالتالي حضاريَّتهم، وهو الإحساس الداخلي النابع من الذات الإنسانية، بكل ما هو صحيح أو خاطئ في سلوك الشخص أو دوافعه، وهو ما يدفعه للقيام بالعمل الصّحيح، ويلومه على العمل الخاطئ، فهو إحساس أخلاقي قِيمي داخلي عند الإنسان، يجب أن تُبنى عليه تصرفاته، فالضمير هو الذي يُحدد درجة نزاهة الشخص، وأمانة الإنسان، وهو المسؤول عن شعوره بالسعادة التي هي السَّلام الداخلي نتيجة نقاء ضميره.
فالضمير في الإنسان هو الموصوف قرآنياً في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. (الشمس: 10)، هذه النفس التي لها عدد من الأشكال والأنواع (المطمئنة، الراضية، المرضية، والمُلهمة، والأمارة، واللوامة) والإنسان – كل إنسان – يتقلَّب بين هذه النفوس، ولكن المراقب العام عليه وعليها جميعاً هي النفس اللوامة التي أقسم بها سبحانه في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}.(القيامة: 2).
هذه القوَّة الخفية لا تختفي في الإنسان إلا إذا هو أخفاها رغماً عنها وما ذلك إلا بكثرة المعاصي والجرائم والعظائم وما يُطلق عليها الشرع الإسلامي: (الكبائر السبعة، أو الموبقات والعظائم)، لأنه يعتاد على الجريمة، وعادة ما يهرب من الضمير بالمسكرات، والمخدرات، لأنه إذا لم يُنِم ويُخدِّر ضميره فإنه ولا شك سينتحر ويُنهي حياته التي يكون فيها عذاب الضمير أكبر من كل عذاب يتصوَّره الإنسان، وأهمها وأبشعها وأشنعها القتل بدون حق، هذه الجريمة التي راحت الدول المحتضِّرة بالجريمة تجعل لها شركات تُسميها (أمنية)، وما هي إلا تقنين للإجرام، وتنظيم لهذه الجريمة التي تمقتها كل المجتمعات والقوانين والأعراف الإنسانية.
ضمير الجمع (الأمة)
نعلم جميعاً أن في كل إنسان منا ضمير يراقب تصرفاته، ولكن هل هناك ضمير اجتماعي، أو جمعي ليُحاكم الأمة على تصرفاتها، والشعب على خيانته؟
نعم؛ هناك ضمير اجتماعي يتكون من مجموع الضمائر الحرة في الأمة التي تتبع منظومة قيمية وأخلاقية، وتشريعات تضبط حياتها كلها وفقها كالتشريع الإسلامي الحنيف، والتشريع الرباني الحاكم على ضمائر المجتمع الإسلامي والأمة المرحومة هو تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا التشريع الاجتماعي الرائع جداً هو الذي يُحدد ضمير الأمة ويُبين لها مدى إلتزامها بمنظومتها القيمية، وهذا ما أكَّد عليه الإمام الحسين، عليه السلام، في نهضته المباركة ومن لحظاتها الأولى ومن جوار قبر جده المصطفى، صلى الله عليه وآله حيث قال: “أللّهم إنّ هذا قبر نبيك محمد، وأنا ابن بنت محمد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، أللّهم وإني أحب المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلالة والإكرام بحق هذا القبر ومَنْ فيه إلا ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضاً”.
على العلماء الربانيين وقيادات الساحة الأمناء، والأقلام الحرة، والمنابر المسؤولة، أن تتحمل واجبها التاريخي في إعادة الأمة إلى خط السبط الشهيد، وهو خط الإسلام الحق، خط القرآن المجيد
ثم أكد ذلك في رسالته المعروفة لأخيه محمد وعموم بني هاشم الأكارم، التي قال فيها: “وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب النّجاح والصّلاح في أمّة جدي محمد صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروفة وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد، وسيرة أبي علي بن أبي طالب”.
وبنفس السياق تحدَّث – روحي فداه – في خطبته في يوم عاشوراء، قال عليه السلام: “إنّ هذِهِ الدُّنْيا قَد تَغَيَّرَت وَتَنَكَّرَتْ وأدْبَرَ مَعرُوفُها، فَلَمْ يَبْقَ مِنْها إلاَّ صُبابَةٌ كَصُبابَةِ الإناءِ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالمَرعَى الوَبِيلِ، ألا تَرَوْنَ أنَّ الحَقَّ لا يُعْمَلُ بِه، وَأنَّ الباطِلَ لا يُتناهى عَنهَ، لِيَرْغَبْ المُؤْمِنُ في لِقاءِ اللهِ مُحِقّاً فَإنِّي لا أرَى الْمَوتَ إلاّ سَعادَةً، وَلاَ الحَياةَ مَعَ الظَّالِمينَ إلاّ بَرَماً؛ إنَّ النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ”.
فالذي عمله صبيان بني أمية، وطاغيتهم معاوية بن هند كان أن خدَّر ضمير الأمة بكثرة الكذب والدَّجل، وشراء الضمائر بالمال والولايات فأفسد دواخل الناس فعمَّ الفساد وطمَّ حتى صار الفاسد أكثر من الصالح، ولذا صار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً ففسد ضمير الأمة الإسلامية، وكان لا بدَّ من عمل عظيم يوقظ فيها ذاك الضمير المُخدَّر، أو الغائب قهراً من شدة الظلم، ووطأة عَسَف وجور معاوية وولاته من أشباهه ونُظرائه في كل شيء.
نهضة الإمام الحسين نهضة الضمير الإسلامي
هكذا قام الإمام الحسين بنهضته المباركة ليُعيد الروح المفقودة، والضمائر المكبوتة، في الأمة الإسلامية التي أنهكها حكام بني أمية بالقتل والظلم والجور لكل صالح فيها فوصل بها الأمر إلى أن صارت الحياة جحيماً لا يُطاق على أهل الدِّين والصَّلاح والفَضيلة “ألا تَرَوْنَ أنَّ الحَقَّ لا يُعْمَلُ بِه، وَأنَّ الباطِلَ لا يُتناهى عَنهَ، لِيَرْغَبْ المُؤْمِنُ في لِقاءِ اللهِ مُحِقّاً فَإنِّي لا أرَى الْمَوتَ إلاّ سَعادَةً، وَلاَ الحَياةَ مَعَ الظَّالِمينَ إلاّ بَرَماً”، فالنهضة صارت ضرورية لإنقاذ الأمة وإحائها بإحياء الضمير فيها وإعاته إليها ليحكم حياتها ويُنظِّم لها قيمها في الحياة.
وجميل ما يقوله سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه)،عن دور ضمير الأمة في هذا العصر الأغبر ودور الرِّساليين فيها، بقوله: “انطلاقاً من هذا الشهر، يجدر بنا أن نفعـّل ضمير الأمة لمواجهة المشاكل الحادة التي تعيشها، وان نجعلها بحول الله تعالى أمة وسطى، وشاهدة على الكرامة والعدالة والتحرر للبشرية جميعاً وفي كل أرجاء العالم”. (الإمام الحسين قدوة الصديقين السيد محمد تقي المدرسي: ص38).
فعلينا أن يكون لدينا الضمير الناهض والفكر الواعي لنستطيع أن نوصل صوت الإمام الحسين، عليه السلام، ورسالته إلى الدنيا بأسرها، يقول سماحة السيد المرجع أيضاً: “إذا كانت الأمة الإسلامية قد تحدَّت عبر تاريخها المديد عاصفة الحروب الصليبية بشموخ، واحتوت إعصار الغزو التتري بصبر وصمود، وإذا كانت الأمة لا تزال تقاوم عاصفة الهجمة الصليبية الغربية الجديدة ورأس حربتها دويلة الصهاينة، وإذا كانت قد إحتوت هجمات الشرق الكافر، فذلك كله لأن الأمة تملك ضميراً حياً نابعاً من قيم القرآن الحكيم، وتاريخ الجهاد الحافل، وفي طليعته تاريخ نهضة السبط الشهيد عليه السلام.
وإذا كانت الثورات التحررية هي السمة البارزة لهذه الأمة، وبالذات في صفوف اتباع أهل البيت عليهم السلام، فذلك لأن الإمام الحسين لا يزال في نفوسهم صرخة رفض، وصيحة كرامة، ودعوة صادعة بالحرية وبالعطاء.
إلا أن هذا الضمير الناهض لم يستنفد كل طاقاته، وهذه الروح الكبيرة لم يستفد من كل قدراتها.. ذلك لأن الطغاة والمنابر التابعة لهم والأقلام السائرة في ركبهم، وعلماء السوء الذين يكتمون الحق.. هؤلاء جميعاً حاولوا إبعاد هذا الضمير النابض، وتلك الروح الثائرة عن حوادث الحياة اليومية، وعن مشاكل الأمة المُعاشة، ودفعهما إلى مجاهل التاريخ، والى الزوايا الضيقة.. ومع كل الأسف فهم قد نجحوا – بشكل أو بأخر- في تلك المحاولات.
وعلى العلماء الربانيين وقيادات الساحة الأمناء، والأقلام الحرة، والمنابر المسؤولة، أن تتحمل واجبها التاريخي في إعادة الأمة إلى خط السبط الشهيد، وهو خط الإسلام الحق، خط القرآن المجيد، الذي من أجله كان قيام السبط، ومن أجله كانت شهادته”. (الإمام الحسين (ع) قدوة الصديقين السيد محمد تقي المدرسي: ص37).