الجندي له قيمة معنوية كبيرة في الدول المتحضرة، وفي ضمير الشعوب الحرة، فهو يمثل درعها الحصين أمام التحديات الخارجية، فهو الذي يمتشق السلاح على الحدود دفاعاً عن مصالح وطنه وشعبه، لذا نلاحظ التقديس لمن يقتل في مهمة عسكرية، فيتم تشييعه في مراسيم خاصة وفي أجواء حزينة يشارك فيها المسؤولون وابناء الشعب، بغضّ النظر عن المعايير القيمية، فان كان في نظرنا نحن المسلمون، أنه من جنود الغزاة، فهو في عيون أهله والمسؤولين في بلده بطلاً قومياً أدى واجبه العسكري، و احياناً نقرأ عن عمليات تفاوض شاقة بين بلدين لتبادل رفات الجنود من حروب سابقة مرت عليها عشرات السنين، وطمرت جثثهم تحت الرمال، إلا ان هذه الرفات لها قيمة معنوية عالية، فما بالنا اذا كان هذا القتيل ضابط كبير برتبة عميد، يقتل بدم بارد بقصف جوي لمركبته مع مرافقيه دون أن يكون في مهمة عسكرية، وكأن شيئاً لم يكن في العراق، وكأن تركيا لم تفعل شيئاً!
-
اتفاقية التوغل مكسب تركي استراتيجي
بعد إعلان حزب العمال الكردستاني في مؤتمر له في لبنان عام 1982 الكفاح المسلح ضد السلطات التركية تحت شعار الحصول على حقوق الشعب الكردي في تركيا، استغلت انقرة هذه الفرصة التي جاءت متزامنة مع انشغال العراق بالحرب ضد ايران، فاقترحت على صدام توقيع اتفاقية حدودية تسمح للقوات التركية بمطاردة عناصر الحزب العمالي في عمق الاراضي العراقية الى عمق عشرة كيلومترات فقط، كون هذه العناصر تعتمد في معاركها ضد الجيش التركي على المناطق الجبلية الوعرة المتاخمة للحدود بين العراق وتركيا، وتبلغ مسافة الحدود بين البلدين 384كيلومتراً تتخللها مناطق جبلية يصعب الوصول اليها، وكان واضحاً أن اكراد تركيا يستفيدون من بعض التسهيلات من اشقائهم الكرد في العراق من منطلق قومي واحد، ومشاعر متقاربة.
[.. الاتفاقية التي وقعها صدام عام 1983 مع الحكومة التركية كانت تمثل بالنسبة له اتفاقية عادية تتيح لتركيا، بأن تحافظ على أمنها القومي، أما الحكومة التركية فان هذه الاتفاقية كانت بالنسبة لها تمثل مكسباً استراتيجياً كبيراً ذو مديات بعيدة ..]
الاتفاقية التي وقعها صدام عام 1983 مع الحكومة التركية كانت تمثل بالنسبة له اتفاقية عادية تتيح لتركيا، وهي بلد صديق له، بأن تحافظ على أمنها القومي، فهو يكسب ودّها وصداقتها حتى يتفرغ للحرب على الحدود مع ايران، وربما كان يحلو لصدام أن يكون ثمة عامل ضغط خارجي على أكراد العراق بأن يحجموا من تحركاتهم وتحالفاتهم بما لا يتمكنوا معه من الاعتراض رغم ما يتعرضون له من أذى بسبب العمليات العسكرية، أما الحكومة التركية فان هذه الاتفاقية كانت بالنسبة لها تمثل مكسباً استراتيجياً كبيراً ذو مديات بعيدة سنأتي عليه.
فيما يتعلق بالحادث الأخير الذي أدى الى استشهاد آمر اللواء الثاني حرس حدود المنطقة الاولى في منطقة سيدكان قرب اربيل، فمن الجدير تسليط الضوء على طبيعة ردود الفعل العراقية، ثم ردود الفعل التركية على التنديد العراقي؛ الجانب العراقي لا يبرح يصدر بيانات التنديد، في كل عملية اعتداء تركي طيلة السنوات الماضية، وفي خطوة أخرى تستدعي وزارة الخارجية السفير التركي وتبلغه احتجاج حكومة بغداد على الانتهاكات التركية المتمثلة بالغارات الجوية التي تفوق عمق العشر كيلومترات في عمق الاراضي العراقية متسببة بسقوط عشرات القتلى والجرحى من سكان القرى الحدودية، والمثير أن المتحدث باسم الخارجية العراقية أحمد الصحاف يتحدث عن “الجهود الدبلوماسية لحل الازمة” في تعليقه على حادث اغتيال القائد العسكري العراقي مؤخراً! أما الجانب التركي فقد جاء على لسان دبلوماسيين وساسة أتراك بأن التنديدات العراقية “لا تعنيهم بشيء”! لانهم يتحركون في إطار الاتفاق المبرم مع نظام صدام البائد، ويعدون هذا الاتفاق ساري المفعول بالنسبة لهم، وقد ذهب اردوغان الى أبعد من هذا عندما تحدث عن حاجة تركيا “الى عملية درع الفرات جديدة كما فعلنا في سوريا” متذرعاً بوجود الجماعات الارهابية التي طالما تدّعي تركيا أنها تخوض حرباً ضدها.
[.. ليس من المعقول ابداً ان تستمر الانتهاكات العسكرية التركية للسيادة العراقية، ويستمر سفك الدماء في صفوف ابناء شعبنا، ثم تستمر قوافل الشاحنات التي تحمل البضائع التركية الى العراق ..]
ليس هذا وحسب، بل تطاولت حكومة أردوغان على العراق لتدعي أن عمليات التوغل والتموضع العسكري في شمال العراق، إنما هو بعلم الحكومة العراقية وموافقتها، في حين تنفي هذا بغداد بشدة كما حصل مع حكومة حيدر العبادي عندما توغلت القوات التركية عام 2015 الى عمق الاراضي العراقية وتحديداً في ناحية بعشيقة بالقرب من الموصل ونشرت قوات مدرعة فيها في خطوة الهدف منها تشييد قاعدة عسكرية تركية دائمية، علماً أن التحركات العسكرية التركية لم ولن تكون بأي وقت من الاوقات بعيدة عن المخططات الاميركية، فالضوء الاخضر لاجتياح الاراضي العراقية يأتي من واشنطن الى انقرة قبل ان يأتي من بغداد كما يزعم المسؤولون الاتراك، لاسيما اذا عرفنا ان هذا الاجتياح جاء بعد عام واحد من احتلال عصابة داعش للموصل و أراضي واسعة في محافظة نينوى والانبار وصلاح الدين عام 2014.
هذا اللهجة المتعالية، والموقف العسكري والسياسي لتركيا المدعوم اميركياً هو الذي تعده مكسباً استراتجياً بعد أن رأت نفسها منبوذة اوربياً على الصعيد الاقتصادي من قبل الاتحاد الاوربي، ثم على الصعيد العسكري من قبل حلف الناتو، وقد استنفذ الحلف أغراضه منها بعد انهيار ما يسمى بالاتحاد السوفيتي، فلابد لها من موطئ قدم في المنطقة يحقق مصالحها السياسية والاقتصادية في آن، في وقت الاصطفاف السياسي وظهور المحاور بشكل واضح بالمنطقة.
ولعل الرعاية الاميركية للتحركات العسكرية التركية في شمال سوريا، والسماح لها بفعل ما يحلو لاردوغان، يكون خير دليل على عمق العلاقات الاستراتيجية بين انقرة وواشنطن، وما الانفعالات التي يصطنعها اردوغان، وأنه غاضب على دعم واشنطن لأكراد سوريا، ونشره الاتفاقيات العسكرية وشراء الصواريخ والاسلحة الروسية على وسائل الاعلام، على أن تركيا لم تعد بحاجة الى واشنطن والغرب، إلا سيناريو ساهم اردوغان في كتابته، فكما سكتت أميركا على عدم موافقة تركيا بشن الغارات الجوية على العراق في حرب تحرير الكويت عام 1991 حتى لا تخسر انقرة ودّ صدام، وحتى يغضّ النظر عن اتفاقية التوغل العسكري لعام 1983، فان تركيا كافأت واشنطن بما هو أكبر وأعظم بتحويل الاراضي التركية الى جسر جوي وبري للعناصر الارهابية من مختلف بقاع العالم، وايضاً لمختلف اشكال الدعم العسكري واللوجستي للجماعات الارهابية المتدفقة الى سوريا للمشاركة في الحرب الطاحنة بهدف الاطاحة بنظام بشار الاسد.
-
لماذا يُحرم على الساسة العراقيون المساس باتفاقية 1983؟!
بعد النظر في موقف الجانب التركي، لابد ان نعرج على الموقف في بغداد، وايضاً في اربيل، والبحث في اسباب الصمت المريب على هذه الاتفاقية المشؤومة منذ عام 2003.
المحاصصة السياسية، وهشاشة النظام السياسي، وقلة تجربة من يسمون انفسهم “بالمسؤولين في العراق”، والأهم من كل ذلك؛ التبعية السياسية الواضحة لواشنطن، عززت الاعتقاد لدى الاتراك بأنهم لا يتعاملون مع نظام ديمقراطي من شأنه خلق أجواء بالضد من السياسات التركية في العراق، إنما يتعاملون مع أشخاص وأحزاب يمكن ترضيتهم بشكل او بآخر! للسكوت على ما تفعله من انتهاكات يومية وإزهاق لأرواح الابرياء، ومن ثمّ تجاهل وجود سيادة لهذا البلد.
بإمكان نواب البرلمان العراقي إعادة النظر في اتفاقية عام 1983، وعدّها من الماضي، ويفترض ان طويت مع مبرراتها، بل مع طيّ صفحة نظام صدام الذي كان يتخذ القرار فردياً ولتحقيق مصالحه، ولا شأن له بالسيادة ومصالح الشعب العراقي، بينما الساسة الجدد تقع عليهم مسؤولية اخلاقية وقانونية وتاريخية بأن يجسدوا القرار الوطني المتمخض من الارادة الجماهيرية بإلغاء هذه الاتفاقية وإجبار تركيا على احترام سيادة العراق، وذلك من خلال أوراق ضغط عديدة أبرزها؛ التبادل التجاري بين البلدين، ومعظمه لصالح تركيا وهو بمقدار 16مليار دولار، وايضاً؛ ملف النفط عبر الاراضي التركية، وحتى حجب وتقليل الاستثمارات التركية في العراق، الى جانب الخطوة الأكيدة التي يفترض اتخاذها؛ تقديم دعوى قضائية الى المحاكم الدولية ضد تركيا على قتلها القائد العسكري العراقي ومرافقيه بشكل ظالم، ونشر قضيته في مختلف وسائل الاعلام، وعدّ القضية من صميم الأمن القومي العراقي، ومن لوازم الكرامة والسيادة الوطنية، وهذا يحتاج الى تضافر آراء ومواقف الاحزاب والكتل البرلمانية، وفي المقدمة الكتل الكردية المعنية بملف الانتهاكات التركية في شمال العراق، كما يحتاج الى أمر مفصلي هام وهو؛ قطع الطريق على كل اشكال التغرير والرشاوى من الاتراك، فيكون الطريق مسدوداً الى الأبد المدرعات والطائرات التركية من أن تنتهك السيادة العراقية، ليس من المعقول ابداً ان تستمر الانتهاكات العسكرية التركية للسيادة العراقية، ويستمر سفك الدماء في صفوف ابناء شعبنا، ثم تستمر قوافل الشاحنات التي تحمل البضائع التركية الى العراق، ويواصل الخبراء والمهندسون الاتراك في مشاريع اقتصادية وتنموية كما لو أنهم جزء من أصدقاء العراق والعراقيين ويحرصون على توفير أفضل سبل العيش لهم!