-
تقديم حياتي
ما هي حقيقة الحياة؟ أو ما هي الحياة الحقيقية بالنسبة للبشر في هذه الدنيا؟
ربما تقول: أن الحياة هي الحركة، بأخذ الهواء وطرحه من الرئتين، وضخ القلب الدم في الأعضاء، والنشاط العام المرافق لذلك في الجسم البشري، بما في ذلك الغذاء، والنوم وغيرها من الضروريات التي تعطينا صفة الحياة وإلا فالموت هو المتحقق.
ولكن هذا نشترك فيه مع كل الحيوانات البرية والبحرية، فما الذي يميِّزنا عن غيرنا في هذا المجال الحيوي؟ ما يُميزنا عن كل الحيوانات الحية هي العقل، والإرادة، وليس الطعام والشراب، وربنا سبحانه الذي كرَّمنا على كل المخلوقات، أمرنا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. (الأنفال: 24).
فالحياة التي يأمرنا بها ربنا سبحانه هي الاستجابة لما يأمر به رسوله الكريم صلى الله عليه وآله، الذي دعا إلى الله تعالى وتوحيده وعبادته، والتزام القرآن الحكيم وكل ما جاء فيه من عقائد وأحكام وأخلاق، فالحياة الحقيقية والتي يُريدنا الله ورسوله أن نستجيب لها؛ هي الإسلام العظيم بكل منظومته القيمية الأخلاقية، وهي قمَّة الحضارة الإنسانية في التاريخ البشري.
لأن الحضارة هي البناء العلمي والعملي المبني على منظومة القيم والفضائل الإنسانية، وأي بناء لا يلتزم منظومة القيم هو بناء مادي خاوي من الرُّوح، والقيمة، كحال حضارتنا الرقمية اليوم التي تعملق كل شيء مادي فيها، وتقزَّمت لديها كل القيم والفضائل، وفي تلك الدُّول المتحضِّرة جداً تراها قلبت المفاهيم رأساً على عقب، فصارت الفضيلة رذيلة، والرَّذيلة أصبحت فضيلة، كما نسمع عن المثلية وتقنين القوانين الحامية لأولئك الممسوخات من الشواذِّ البشرية وتلك هي الطامَّة الكبرى التي فضحت هذه الحضارة الفاسقة.
[.. بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي، ومَنْ قِبَلَهُ من بني هاشم: أما بعد؛ فإن مَنْ لَحِقَ بِي استشهد، ومَنْ لَم يلحقْ بِي لم يُدرك الفتح. والسلام” ..]
فللحضارة أصولها، وفروعها، وأهلها، وبُناتها، ورُعاتها، وهم أصحاب الرِّسالات السَّماوية والقيم والفضائل الإنسانية لا ما يدَّعيه كل مَنْ هبَّ ودبَّ من هؤلاء الطُّغاة الذين لا يعرفون من الفضيلة شيء وليس فيهم فضيلة، ولا لهم قيمة تُذكر لأنهم ينظرون إلى الدنيا من جانبها المادي فقط.
-
ركب الحضارة الخالد
هو ركب الرسالة الإسلامية الذي كان يقوده ذاك القائد الرَّباني، سبط رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه، وخامس أصحاب الكساء وخاتمهم، الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام الذي خرج من مكة المكرمة قبل يوم من أيام الحج، وهو يوم التروية، الثامن من ذي الحجة الحرام، حيث يتهيَّأ الحجاج للوقوف في عرفه، وعلى صعيده الطاهر، ولكن الإمام الحسين عليه السلام فاجأ الجميع بحلِّ إحرامه وسرعته بالخروج من بيت الله الذي ما كان لولاه.
والتاريخ يقول لنا العجائب من الحقائق التي حاول أزلام بني أمية طمسها، ولكن نور الحق، وصدق الحقيقة تأبى عليهم طمسها ودفنها كما أرادوا، ومن تلك الحقائق الباهرة هي رسالة الإمام الحسين عليه السلام لأهله الكرام وإخوته وأبناء عمومته من فتيان بني هاشم الأكارم، التي كتبها على حين سرعة في طريق خروجه من مكة المكرمة حيث روي عن زُرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: “كتب الحسين بن علي عليه السلام، من مكة إلى محمد بن علي (ابن الحنفية): “بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي، ومَنْ قِبَلَهُ من بني هاشم: أما بعد؛ فإن مَنْ لَحِقَ بِي استشهد، ومَنْ لَم يلحقْ بِي لم يُدرك الفتح. والسلام”
[ .. للحضارة أصولها، وفروعها، وأهلها، وبُناتها، ورُعاتها، وهم أصحاب الرِّسالات السَّماوية والقيم والفضائل الإنسانية لا ما يدَّعيه كل مَنْ هبَّ ودبَّ ..]
وفي رواية أخرى عن ميسر بن عبد العزيز، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: “كتب الحسين بن علي إلى محمد بن علي من كربلاء: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي، ومَنْ قِبَلَهُ من بني هاشم: أما بعد؛ فكأن الدنيا لم تكن، وكأن الآخرة لم تزل. والسلام “. (بحار الأنوار: ج 45 ص 87).
في الرِّسالة الأولى يُحدد المولى السبط عليه السلام، الفتح باللحاق بركبه النوراني، وكل مَنْ لم يُسعفه الحظ، والجد، والعلم، والعمل، والإيمان، والإيقان، فإنه لن يُدركَ ذاك الفتح العظيم الذي بشَّرهم به، ولكن العجيب الغريب أن إدراك الفتح يسبقه الشهادة في سبيل الله.
فالقول الحق، واليقين الواضح من الرسالة أنه مَنْ يلتحق بالرَّكب المبارك فإنه سيستشهد لا محالة وتلك الشهادة هي الفتح لهم كما يُخبرهم سيدهم ومولاهم وحجة الله عليهم، فالشهادة فتح على عالم الآخرة، ومشاهدة ذاك العالم العجيب يجعل منهم شهوداً على عالم الدنيا وأهلها، وذاك هو الفتح للبصائر، والقلوب، والعقول، والأرواح، كما كشف لهم عن ذلك كله سيدنا أبو عبد الله عليه السلام في ليلة عاشوراء حيث اختبرهم فلم يجد إلا الأشوس الأقعس ويَستأنسونَ بالمنيةِ دونه استيناسَ الطفلِ إلى محالبِ أمه، فقال لهم: “انظروا” فرفعوا رؤوسهم ونظر كل منهم إلى قصره في الجنة بكل ما فيه من الخيرات والبركات، ولكن خِدمَة المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام والقتال دونه كان أجمل، وأكمل لأنه الطريق الموصل إلى كل فضيلة ومكرمة.
-
حقيقة الدنيا بنظر شهودها
هنا حقيقة تكشفها لنا الرسالة الثانية للمولى السبط سيد الشهداء عليه السلام حيث قال كلمة ملتبسةً لا يفهمها إلا أهلها من أصحاب الذوق والشوق لمعالي الأمور، وعوالي العصور، وهي قوله عليه السلام: “فكأن الدنيا لم تكن، وكأن الآخرة لم تزل”
حقيقة الدنيا هنا (كأنها لم تكن)، كأنها سراب في صحراء، أو وهم في فكر، أو خيال في عقل، وما هي إلا لحظة عابرة مهما طالت، وهل من أحد في الدنيا عاش كأبي البشر الثاني نبي الله نوح عليه السلام، الذي عاش حوالي ثلاثة آلاف عام، كما في بعض الروايات؟
فقد رُوِيَ أَنَّ جَبْرَئِيلَ عليه السلام؛ قَالَ لِنُوحٍ عليه السلام: “يَا أَطْوَلَ الْأَنْبِيَاءِ عُمُراً كَيْفَ وَجَدْتَ الدُّنْيَا؟ قَالَ: “كَدَارٍ لَهَا بَابَانِ، دَخَلْتُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَخَرَجْتُ مِنَ الْآخَرِ” (مجموعة ورام: 1 / 131).
وحقيقة ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: “ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر”.
وليت الإنسان ينتبه إلى هذه الحقيقة في حياته قبل الموت الذي وصفه تعالى بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}. (سورة المؤمنون: 15)، والعجيب في هذه الآية الكريمة هو التأكيد المضاعف؛ فـ “إنّ” حرف توكيد، و”اللام” في “لميتون” هي حرف توكيد أيضاً، مع أن حتمية الموت بديهية وليست نظرية، فالجميع موقنون بالموت، فلماذا هذا التوكيد، والتأكيد؟
لأن الناس يتعاملون مع حقيقة الموت من غير النظر به إلى أنفسهم، أي أنه يوقن من الموت يلحق بالجميع إلا هو، وكأنه في خيمة واقية له من الموت الذي لا واقي منه لأحد، فهم يتعاملون مع الموت كما يتعاملون مع الشمس، يصطلون بها، وتحرق أجسامهم، ويشعرون بحرارتها ويعيشون بآثارها من غير تحديق بها، بل يُلاحظون آثارها على الآخرين فقط، وهكذا يرى أكثر الناس الموت من خلال حلوله على غيرهم لا على أنفسهم، وقد لفتَ رسول الله صلى الله عليه وآله إلى هذه الحقيقة، قائلاً: “أيها الناس، كأنّ الموت فيها على غيرنا كُتب، وكأنّ الحقّ على غيرنا وجب، وكأنَّ ما نسمع من الأموات سفرٌ عمَّا قليل إلينا راجعون، نُبَوِّؤهم أجداثهم، ونأكل تُراثهم كأنا مخلّدون بعدهم”.
فالموت هو الحق الذي عنه غافلون، وهو اليقين الذي يشك فيه الجميع، وهو الضيف الذي لا يقبل به أحد من العالمين، لمرارته، وصعوبته، ولكن يبقى أنه أوَّل منازل الآخرة، فهو كالمخاض الذي يضرب الأم الحامل المنتظرة لولادة جديدة، وهذا معنى كلمة المولى عليه السلام: “وكأن الآخرة لم تزل”، فكأننا نولد في هذه الدنيا ونعيش فيها لحظات لننتقل إلى الدار الآخرة حيث الخلود والأبدية، وهناك منزلان لا ثالث لهما فإما جنَّة أبداً، وإما جحيم سرمداً.
-
انطلق ركب الخلود
ففي الثامن من ذي الحجة انطلق ركب الخلود بقيادة الإمام الحسين عليه السلام، الذي أراد أن يكون طريقه لاحباً، وواسعاً، وواضحاً لا خفاء فيه حتى يقطع عذر كل معتذر، ويُقيم الحُجَّة على كل مَنْ يأتي بعده ويُريد أن يسير في طريقه السَّوي، وينتهج منهجه القويم، فإن أول الطريق إيمان ويقين، ثم جهاد ونضال فالحياة عقيدة وجهاد، وأنه لن يبلغ الفتح إلا بالشهادة في سبيل الله وعند ذلك سيكون عمله براً ليس فوقه بر أبداً في هذه الحياة.
فركب الإمام الحسين عليه السلام انطلق ليبني الحضارة الإنسانية أما آن لنا أن نفهم، وندرك رسالته لنا وننطلق معه في نفس الطريق، وذات المنهج لإكمال المسيرة بما بدأه المولى سيد الشهداء عليه السلام في هذه الحياة؟