تصوّر لو تقرر أن ينتخب شخصٌ من بين ثلاثة آلاف شخص ليعطى هدية ثمينة، وقد حضيت أنت بتلك الفرصة دون غيرك، ماذا سيكون شعورك وأنت تنال تلك الجائزة؟
كم ستكون سعيداً وقد كنت السعيد الوحيد بين الثلاثة آلاف شخص؟!
ربما تبقى طول عمرك تتحدث عن فوزك بذلك، وستعتبر ذلك دليلاً على تميزك وتفوقك.
والآن؛ أنت هو الفائز بين هؤلاء الثلاثة آلاف، فإن أكثر من ثلاثمائة مليون إنسان يتمنى أن يكون في مثل هذا اليوم في هذا الموقف الذي أنت فيه.
في الموقف الذي ينظر الله اليه نظرة رحمة، تلك النظرة التي يقول عنها الإمام عليه السلام: “فَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَضِبْتَ عَلَيَّ يَا رَبِّ فَلَا أُبَالِي”.
ففي الحديث المعروف: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ عَرَفَةَ يَنْظُرُ إِلَى زُوَّارِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ، عليه السلام، فَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَ يَقْضِي لَهُمْ حَوَائِجَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَهْلِ الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ”.
هل تعلم ماذا يعني هذا الحديث؟
إن أهل الموقف بعرفات، يمتازون عن غيرهم بأمور:
أولها: أنهم أهل وفادة الله، أي أنهم وفد الله، ولا شك أن الوفد محترم ومقدر، وأن المزور يقضي حوائج زائره، ولكن لله وفد أعظم من وفد الحاج وهم زوار قبر الحسين ع والباكين عند قبره فيبدا بهم قبل البدء بوفده، ونظرة واحدة من الرب تكفي لخير الدنيا والآخرة.
ثانيها: من خصائص الوقوف بعرفات أن كل من في الموقف مغفور له، فيخرج من الموقف وقد ناداه الرب، أستأنف العمل.
ثالثها: أن الله يستجيب لهم دعائهم ويشفعهم في غيرهم ففي الحديث عن الإمام زين العابدين، عليه السلام، يقول: “إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثاً غُبْراً إِنَّ حَقّاً عَلَيَّ أَنْ أُجِيبَهُمْ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ شَفَعْتُ مُحْسِنَهُمْ فِي مُسِيئِهِمْ وَ قَدْ تَقَبَّلْتُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ فَلْيُفِيضُوا مَغْفُوراً لَهُمْ”.
[ .. أمير المؤمنين، عليه السلام، يدخل السوق، يرى الناس منشغلين بالبيع والشراء، فيبكي بكاءاً شديداً ثم يخاطب الناس -والخطاب لي ولك-: “إِذَا كُنْتُمْ بِالنَّهَارِ تَحْلِفُونَ وَ بِاللَّيْلِ فِي فُرُشِكُمْ تَنَامُونَ وَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ عَنِ الْآخِرَةِ تَغْفُلُونَ فَمَتَى تُجَهِّزُونَ الزَّادَ وَ تُفَكِّرُونَ فِي الْمَعَاد”؟ ..]
-
لا تكتف!
الآن وقد حضيت بهذا اللطف الإلهي الكبير، فعليك بالتزود، فإن الزاد قليل والسفر بعيد، الحساب دقيق، النار لظى، والمنادي اسرافيل والحاكم رب العالمين.
نحن في دار غرور، كل شيء في هذه الدنيا يغرنا.
[.. في هذا اليوم (يوم عرفة) وردت أدعية كثيرة وهذا يكشف أهمية هذا اليوم، ولكن المشكلة هي أننا نقرأ الدعاء، وهذا خطأ نحن علينا أن ندعو فالدعاء حقيقته تجسيد المملوكية، نحن ملك لله عز وجل، والدعاء هو أن نبرز تلك المملوكية ..]
-
قصة شريح القاضي وشراء الدار
اشترى شريح القاضي داراً غالية وكتب لها كتابا واشهد الكثيرين على ذلك، فوصل الامر إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فطلبه وقال له: إتق الله يا شريح، فإنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسأل عن بيّنتك حتّى يخرجك من دارك شاخصاً.
ثمّ قال له: لو كنت عند ما اشتريت هذه الدّار أتيتني فكتبت لك كتابا على هذه النسخة.
فقال شريح: وما كنت تكتب يا أمير المؤمنين؟
قال عليه السّلام: كنت أكتب لك هذا الكتاب:
“بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم هذا ما اشترى عبد ذليل من ميّت ازعج بالرّحيل اشترى دارا في دار الغرور من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين و تجمع هذه الدّار حدود أربعة: فالحدّ الأوّل منها ينتهي إلى دواعي الافات، و الحدّ الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات، و الحدّ الثالث منها ينتهي إلى دواعي المصيبات، و الحدّ الرابع منها ينتهي إلى الهوى المرديّ و الشيطان المغويّ، و فيه يشرع باب هذه الدّار.
اشترى هذا المفتون بالأمل، من هذا المزعج بالأجل، جميع هذه الدّار بالخروج من عزّ القنوع، و الدّخول في ذلّ الطلب، فما أدرك هذا المشتري من درك فعلى مبلي أجسام الملوك و سالب نفوس الجبابرة مثل كسرى و قيصر، و تبّع و حمير، و من جمع المال إلى المال فأكثر، و بنى فشيّد، و نجّد فزخرف و ادّخر بزعمه للولد، إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض لفصل القضاء، و خسر هنالك المبطلون شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسرى الهوى، و نظر بعين الزوال لأهل الدّنيا، و سمع منادي الزّهد ينادي في عرصاتها:
ما أبين الحقّ لذي عينين إنّ الرّحيل أحد اليومين
تزوّدوا من صالح الأعمال، و قرّبوا الامال بالاجال”.
ومن هنا؛ على المؤمن أن يسعى جاهداً ولا يكتف بالقليل لأنه يخشى المسير والمصير، وإذا رأيت النفس لا تساعدك على ذلك فانع هذه النفس ونح عليها بكل لسان، كيف لا أنوح وقد أفنيت عمري في شرة السهو عن الله وأبليت شبابي في سكرة التباعد منه؟
يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ، وَنَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ، فَاللَّهَ اللَّهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ، وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ، وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ، فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا، أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ، وَأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ، وَ اسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ، وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ، وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا”.
أمير المؤمنين، عليه السلام، يدخل السوق، يرى الناس منشغلين بالبيع والشراء، فيبكي بكاءاً شديداً ثم يخاطب الناس -والخطاب لي ولك-: “إِذَا كُنْتُمْ بِالنَّهَارِ تَحْلِفُونَ وَ بِاللَّيْلِ فِي فُرُشِكُمْ تَنَامُونَ وَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ عَنِ الْآخِرَةِ تَغْفُلُونَ فَمَتَى تُجَهِّزُونَ الزَّادَ وَ تُفَكِّرُونَ فِي الْمَعَاد”؟
-
الرب حييّ
في هذا اليوم (يوم عرفة) وردت أدعية كثيرة وهذا يكشف أهمية هذا اليوم، ولكن المشكلة هي أننا نقرأ الدعاء، وهذا خطأ نحن علينا أن ندعو فالدعاء حقيقته تجسيد المملوكية، نحن ملك لله عز وجل، والدعاء هو أن نبرز تلك المملوكية، هو أن نجسّد تلك المملوكية في أبداننا، في أيدينا، الصلاة تجسيد للمملوكية، الدعاء تجسيد للمملوكية، {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: {إِنَ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} هُوَ الدُّعَاء”.
وربنا سبحانه حيي، يستحي من عبده ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام أيضاً يقول: “ما بسط عبدٌ يديه و هو يدعو إلا استحيا الله أن يردّهما صفرًا حتى يجعل فيهما شيئًا من فضله ورحمته، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتى يمسح بها رأسه ووجهه”.
ولكن كيف نواجه الرب؟
الإمام الحسين، عليه السلام، في دعائه ليوم عرفة يذكرنا بنعم إلهية قد نغفل عنها كيف كنت في بطن أمي وحفظني الرب من كل سوء، ثم جاء بي إلى الدنيا تاماً سوياً، لم يشهدني خلقي، ثم رزقني من الطعام لبناً مرياً، لا لي سن تقطع ولا يد تبطش، ولا قدم تسعى، ولكن الرب ألقى المحبة في قلب أبوي حتى يحمياني، فلا يشبعان حتى أشبع، ولا يرقدان حتى أرقد..
فلما قوي ظهري واشتد عظمي، بارزت الرب بالمعاص؟!..
يقول الإمام زين العابدين في دعاء له: “أَنَا الَّذِي أَوْقَرَتِ الْخَطَايَا ظَهْرَهُ، وَ أَنَا الَّذِي أَفْنَتِ الذُّنُوبُ عُمُرَهُ، وَ أَنَا الَّذِي بِجَهْلِهِ عَصَاكَ، وَ لَمْ تَكُنْ أَهْلًا مِنْهُ لِذَاكَ”.
فعلينا أن نعقد العزم لإظهار المملوكية لله، وأن نتعب أنفسنا في ذلك.