بهذه الكلمات المؤثرة والمنبعثة من أعماق قلب الامام الحسين، عليه السلام، ودّع ابن عمه، وثقته، وسفيره، الوداع الذي لم يره بعدها إلا يوم الجزاء الأكبر.
قصة عاشوراء والنهضة الحسينية تبدأ من الخطوات الأولى لمسلم بن عقيل نحو الكوفة، فهو توجه الى القلوب والنفوس التي دفعت بالاقلام لتعد بالبيعة والنصرة والطاعة للإمام الحسين، فبعد هلاك معاوية وانتفاء كل المبررات الشرعية لاستمرار الحكم الأموي، حيث نصّت اتفاقية الهدنة مع الامام الحسن، عليه السلام، بأن يتولى القيادة بعد موت معاوية؛ الإمام الحسين، عليه السلام، علماً أنه لم يكن راغباً فيها مطلقاً، إنما الجور والاضطهاد الذي لاقاه الكوفيون من معاوية وسياساته القمعية دفعتهم للبحث عن المنقذ الذي لم يكن سوى الإمام الحسين، عليه السلام.
-
لماذا مُسلم بن عقيل؟!
لا يُعرف الغصن إلا بمعرفة أصل الشجرة وجذورها، وهذا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، عليهم السلام، يقع عليه الاختيار ليكون أول من يخوض غمار المعركة العاشورائية الحاسمة مع قوى الباطل، فهو ابن عقيل بن أبي طالب، ذلك الرجل الذي عرفته العرب بالحِجى والفضيلة والبصيرة، فضلا عن تخصصه بمعرفة الانساب، وهو ذلك الرجل الكفيف (البصير)، فكان يميز بين لئيم الحسب، وخبيث النسب، وبين الكريم والطيب والفاضل، وحسبه من الفضل ما قاله فيه رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أحب عقيل حبين؛ حباً له، وحباً لحب أبي طالب له”، وهذا ما عرفه عنه منذ طفولته عندما أبقاه أباه لنفسه، بعد دعوة النبي أعمامه للتخفيف عن أبي طالب والتكفّل بأولاده نظراً للحالة المعيشية الصعبة آنذاك، فأخذ الحمزة جعفراً، وأخذ النبي علياً، و رفض أبو طالب التخلّي عن عقيل فأبقاه عنده لما كان يكنه من حب وعطف على هذا الولد، ربما لمعرفته بما يحلّ به من ظلم وجور له، ولأولاده من بعده، وربما يكون دافع هذا الحبّ كون عقيلاً كفيفاً من الصغر، فلم يُطق أباه مفارقته اشفاقاً عليه.
وعندما نتحدث بالمجمل عن شخصية عقيل، لابد وأن نقرن ذلك بالحديث عن أخيه؛ علي أمير المؤمنين، عليه السلام، وطبيعة العلاقة بينهما، لنرفع اللبس ونزيل التشويه الذي طالما حاولت الاقلام المغرضة حتى اليوم لإظهار خلاف حقيقة عقيل وعقيدته، و ولائه لشجرة النبوة وأهل بيت رسول الله.
ومن مبتدعات المؤرخين إقحام اسم عقيل مع الناقمين على أمير المؤمنين في عدله ومساواته بين الناس، وأنه مال الى معاوية في حياة أخيه، يستعطيه ويحصل عليه ما عجز عنه من أخيه أمير المؤمنين، بيد أن المصادر أكدت سقم هذا القول منهم؛ ابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة بأن وفادة عقيل الى الشام كانت بعد استشهاد أمير المؤمنين، وهو ما “جزم به العلامة الجليل السيد علي خان في “الدرجات الرفيعة” وهو الذي يقوى في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت الى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم اليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس. وأن عقيلاً لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقراراً له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة، وإنما المأثور منه الوقيعة فيه والطعن في حسبه ونسبه والحط من كرامته والاصحار بمطاعته مشفوعة بالاشارة بفضل أخيه سيد الوصيين”. (مسلم بن عقيل- عبد الرزاق المقرّم).
وهناك مراسلات عديدة بين عقيل وأخيه علي أمير المؤمنين تؤكد العلاقة الإيمانية، وأنه لم يكن مفارقاً جبهة الإيمان والحق، ولم يؤثرها على دنيا زائلة مطلقاً، ومن تلك الرسائل ما أعرب فيها عقيل عن شديد أسفه وبالغ حزنه على ما يتعرض له، وهو الحاكم الشرعي و”الرسمي” للأمة من أبناء الطلقاء وفلول الأمويين أتباع معاوية، بشن غارات على أطراف الحيرة (الكوفة)، فعرض على أخيه النصرة بأبنائه وأهل بيته بأن “بلغني ان شيعتك وأنصارك خذلوك، فاكتب إليّ يا ابن أبي برأيك فان كنت الموت تريد تحملت اليك ببني أخيك وولد أبيك فعشنا معك ما عشت ومتنا معك إذا متّ فوالله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك”.
[.. حسب المصادر فقد بايع من أهل الكوفة مسلماً، بين ثمانية عشر الف، أو خمسة وعشرين ألف، وفي رواية؛ أربعون ألفاً، كلهم مسحوا على يديه يبعايونه على الرضا والتسليم ..]
-
استنهاض العقول والقلوب قبل السيوف
جاء حجر بن عدي الكندي الى الامام الحسين، عليه السلام، بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن، عليه السلام، يستنهضه على حكم معاوية، وقال له: “لقد اشتريتم العزّ بالذل وقبلتم القليل وتركتم الكثير أطعنا اليوم وعصينا الدهر، دع الحسن وما رأى من الصلح، واجمع اليك شيعتك من أهل الكوفة، و ولّني وصاحبي عبيدة ابن عمرو المقدمة فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف”. فجاء الرد البليغ والمقتضب من الإمام الحسين، والمتضمن للمعارف الإلهية والسنن المحمدية والقيم السماوية بأن “قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل الى نقض بيعتنا”.
هذه أحد أبرز بنود الثقافة الاسلامية التي كان الامام الحسين يسعى لزرعها في نفوس افراد الأمة منذ استشهاد أخيه الحسن، وبقاءه حوالي عشر سنوات يترقّب موت معاوية، فالعهد من القيم الدينية السامية التي لا يجب تجاوزها مهما كلف الأمر، ولن يستقيم أمر بالغدر والبغي، فهذا ليس من منهج الرسالة، ولا سبيل المصلحين والثائرين من اجل الحق، نعم؛ إنه من شيم أهل السلطة وطلاب الجاه والمناصب والامتيازات ممن لا يتورعون من فعل شيء لتحقيق مصالحهم الخاصة.
وقد لفت أحد الباحثين نقطة دقيقة في ردّ الإمام الحسين على حجر، وايضاً على عديد الإصحاب المقربين والمتوثبين للثورة ضد حكم معاوية، بأن الالتزام بالعهد لا يتعارض بالمرة مع حديث النبي الأكرم: “اذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه”، فالمقصود بالمنبر ليست الاعواد الخشبية، بقدر ما هي السلطة والتمكّن من رقاب المسلمين مما يفرض عليه بصريح دعوة نبيهم أن يصرخوا بصوت واحد بالرفض والمعارضة له، ويسلبوا منه الشرعية، فيسقط دون أن تسقط معه قطرة دم واحدة، ولكن! هل حصل ذلك؟
[.. هناك مراسلات عديدة بين عقيل وأخيه علي أمير المؤمنين تؤكد العلاقة الإيمانية، وأنه لم يكن مفارقاً جبهة الإيمان والحق، ولم يؤثرها على دنيا زائلة مطلقاً ..]
نفس هذا الموقف تكرر في دار هاني بن عروة عندما كان يقيم فيه مسلم بن عقيل وشُريك بن عبد الله الأعور الهمداني، وكان من كبار الشيعة في البصرة، وخلال وجوده في دار هاني تعرض لوعكة صحية، وقد بلغ عبيد الله بن زياد ذلك فاراد عيادته في مرضه، فاقترح شُريك على مسلم بأن يختبئ في غرفة مجاورة، وعندما يأتي ابن زياد ويستقر في مكانه يجهز عليه ويقتله، فلم يجبه مسلم بشيء على هذا المقترح، فعندما وصل ابن زياد، لم يخرج مسلم من مخبئه ولم يفعل شيئاً، وكان شُريك ينتظره على أحرّ من الجمر، فلما انصرف ابن زياد، سأله عما أبطأه عن تنفيذ الخطّة، قال مسلم: “منعني خلتان: الاولى: حديث علي، عليه السلام، عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: ان الايمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن، والثانية: امرأة هاني فانها تعلقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي، فقال هاني: يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرت منه وقعت فيه”.
هذا القلب الطاهر والنقي هو الذي كان يحويه شخصٌ مثل مسلم بن عقيل، وهو في أعقد الظروف وأكثرها حساسية وخطورة، فكل كلمة وموقف وحركة كان من شأنها تغيير مسار التاريخ، وهذا القلب هو الذي كان يبحث عن نظرائه بين أهل الكوفة، وهو يحمل مهمة السفارة الى هذه القلوب قبل الابدان والسيوف، ليستجلي حقيقة الموقف والولاء، وكان أحد الموالين الصادقين في الكوفة أصدق وأبلغ في القول، وهو عابس الشاكري، الذي انبرى بين القوم المتجمهرين في دار المختار الثقفي، وهم يعلنون الولاء والنصرة للإمام الحسين في محضر مسلم، فقال عابس: “اني لا اخبرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم، وما أغرك منهم، والله اني احدثك عما أنا موطّن عليه نفسي، والله لأجيبنكم اذا دعوتم ولاقاتلنّ معكم عدوكم، ولاضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله”، وقد أثنى عليه حبيب بن مظاهر، وأكد مقالته، كما تضامن معه بنفس الموقف الصادق؛ سعيد الحنفي، وآخرين ممن التحقوا بمعسكر الإمام الحسين، عليه السلام، في كربلاء.
وحسب المصادر فقد بايع من أهل الكوفة مسلماً، بين ثمانية عشر الف، أو خمسة وعشرين ألف، وفي رواية؛ أربعون ألفاً، كلهم مسحوا على يديه يبعايونه على الرضا والتسليم، وحسب المصادر فان منطوق البيعة لمسلم هي نفسها كانت للنبي يوم الغدير، ولأمير المؤمنين، ولابنه الحسن، عليهم الصلاة والسلام، وهي: “الدعوة الى كتاب الله وسنة رسوله، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين وقسمة الفيئ بين المسلمين بالسوية، ورد المظالم الى أهلها، ونصرة أهل البيت على من نصب لهم العدواة والبغضاء، وجهل حقهم، والمسالمة لمن سالموا، والحرب لمن حاربوا من دون رد لقولهم، ولا تخطئة لفعلهم، ولا تفنيد لرأيهم”، (مسلم بن عقيل- عبد الرزاق المقرّم).
كانت تلك الأيدي المصافحة لمسلم بن عقيل دون القلوب الخالية من الايمان، والنفوس الضعيفة والمهزوزة، فما أسرع ما بانت النوايا وانكشفت السرائر عن مسلم عندما طرأ على أهل الكوفة، وتلك الآلاف من المبايعين، موجة الاشاعات باقتحام جند الشام للكوفة واستباحتها، الى جانب الاجراءات القمعية، والتهديد بالقتل لكل من يبقى على بيعته لمسلم، كما لو أن الغاية من البيعة، تقديم السعادة والهناء والعيش الرغيد على طبق من ذهب للكوفيين من دون تضحية او بذل جهد، واعتقد أن مقولة الفرزدق الشهيرة عند لقياه الإمام الحسين في الطريق، لم تكن دقيقة، وإلا لو كانت قلوب الكوفيين مع الإمام –كما قال الفرزدق- لما رفعت سيوفهم عليه، ولما غدروا بمسلم وأسلموه للطاغية ابن زياد ليلقى مصيره المشرّف الذي لم يتفاجأ به بالمرة، فهو موطن نفسه للتضحية في سبيل الله، وعلى خطى إمامه وسيده أبي عبد الله الحسين، عليه السلام.