ذكرنا في مقالين سابقين في هذه المجلة عن حديثين للنبي، صلى الله عليه وآله، عن ما ستتعرض له الأمة بعد أن ابتعدت عن نهج الدين وجوهره المتمثل في ولاية وقيادة أهل البيت، عليهم السلام، للواقع الإسلامي على مستوى الخلافة. وفي هذا المقال نتعرض للحديث الثالث الهام والخطير، حيث قال، صلوات الله عليه وآله:
«لتنقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة»(1)
وفي صيغة أخرى:
“لَتُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَا تَنْقُضُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْإِمَامَةَ، وَآخِرُهُ الصَّلاَةَ”(2)
يتحدث الرسول، صلى الله عليه وآله، عن نبوءة خطيرة من نبوءاته الهامة. وهنا نحاول أن نستجلي بعض معاني هذا الحديث الشريف.
1- يأتي التأكيد النبوي الشريف في هذا الحديث بطريقة صاعقة. ويستخدم النبي الأكرم فيها لام التأكيد على الفعل لـ «َلتنقضنَّ» الذي ينتهي بنون التأكيد. وهذا التأكيد لتبيان وقوعه الحتمي. ومعنى تنقض من الناحية اللغوية هو (ما انتكث ثم أُعيد غزْلُه) والمقصود هنا، إفساد الأمر بعد إحكامه. وقد نبه القرآن على مثل ذلك بقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}، (سورة النحل: 92)؛ والفعل جاء بصيغة تحكي عن أن هذا ما سيتحقق. أما من سينقض تلك العُرى، فمن الواضح، أن المخاطبين من المسلمين عموماً في زمن النبي، صلى الله عليه وآله، ومن بعده هم المسؤولون عن ذلك، حين يتنازلون عن أسس دينهم، جزءاً بعد جزء.
2- عُرى هي جمع عروة (3)، ويقصد الرسول من العُرى هو مرتكزات الإسلام التي بالاستمساك بها يبقى الدين قوياً ويحقق أهدافه.
3- إن نقض عُرى الإسلام يجري بشكل تدريجي مما يدل على أن هناك تخطيطاً شيطانياً خبيثاً وماكراً وراءه، فيتم نقض عرى الإسلام الواحدة بعد الأخرى.
4- أول تلك العرى في الصيغة الأولى من الحديث وهي المروية من جهة كتب الحديث لعلماء السنة هي «الحكم»، وفي الصيغة الثانية المروية من جهة كتب الحديث لعلماء الشيعة وهي «الإمامة» وفي بعضها «الأمانة»(4)، ومن خلال التأمل والتتبع الواقعي، يكون معنى الأمانة؛ الحكم والإمامة. والسبب أن الأمانة لها مصاديق متعددة، كأمانة الوديعة لدى الأمين، ولكن المصاديق الأوسع هي أن كل ما يجعله الله – تعالى – تحت سيطرتنا وفي عهدتنا يكون أمانة، كأمانة الأهل والأولاد، وأمانة العلم وأمانة الأمة وهكذا.
واستدلالي على أن المقصود بالأمانة معنى الحكم والإمامة لاعتبارات عدة، وهو أن الواقع دل على أن أول قضية تم نقضها من عُرى الدين هي الإمامة والقيادة كما أوضحتها آية الانقلاب {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ}، (سورة آل عمران: 144)، وهي أعظم خيانة للدين الذي مثل ختامه وكماله في بيعة الإمام علي والتي جرت بإشراف مباشر من النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله، والاعتبار الثاني، أن الأحاديث النبوية تفسر بعضها البعض، والاعتبار الثالث، هو أن الأمانة بالمعنى المشهور، وهي الأمانة الفردية، فهي لم تنقض في تاريخ المسلمين بشكل كلي، فلا زالت موجودة في أوساط المسلمين، فيستدل أن معنى الأمانة في الحديث النبوي ينصرف للأمانة العامة، وهي أمانة الوصية والأمة والبيعة وكل ذلك قد تحقق في اغتصاب السلطة وإبعادها عن أهل البيت، عليهم السلام.
5- قيل أن الحكم في الحديث، بمعنى القضاء، وهو غير سليم، لأن المحاكم وفق القوانين الإسلامية كانت موجودة لعدة قرون، بغض النظر عن أهلية القضاة أنفسهم، إلا أن القضاء الإسلامي ظل موجوداً. والأصح هو الحكم بمعنى القيادة والإمامة. وهي التي جرى بالفعل نقضها كما أسلفنا.
6- آخر أسس الإسلام، وفي كل نسخ الحديث تشير الى الصلاة، وهو ما نشاهد بعض أوجهه بالأمس واليوم، حيث نرى ضعف الإرتباط بروح الصلاة وهدفها عند كثير من المصلين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أشارت إليه نهاية سورة الماعون: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، (سورة الماعون: 4-5). وكذلك حالة ترك الصلاة نهائياً عند كثير من المسلمين أو التهاون فيها بشكل كبير، حتى أن بعض الإحصائيات في بعض المدن الإسلامية تشير الى ترك ما يقارب نصف سكان المدينة للصلاة.
هذا الحديث يعد من درر الأحاديث الهامة التي قالها النبي، صلى الله عليه وآله، عن المستقبل والتي وقعت كما قال. ونلاحظ أن هذا الحديث يؤكده عدد واسع من الأحاديث النبوية وخاصة الحديث الثاني الذي ذكرته في العدد السابق من المجلة وبدايته «لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ». وهو عين ما نراه منذ قرون وإلى الآن. فقد تم ضرب عُرى الإسلام وأسسه الواحدة تلو الأخرى، فالحكام الثلاثة ومن وقف معهم قد نقضوا البيعة في خلافة الإمام علي، عليه السلام، لرسول الله، صلى الله عليه وآله، فتم نقض عروة الحكم والأمانة والإمامة. فكان المصاب الأعظم هو في اتخاذ منهج آخر غير ما أراده الله ورسوله، وهذا ما فتح الباب على ضرب بقية عرى الإسلام الواحدة تلو الأخرى.
وفي نظري أن العروة الثانية التي تم نقضها وضربها هو مقام أهل البيت، عليهم السلام، مما جرى لفاطمة الزهراء، عليها السلام، من ضرب وأذى واغتصاب حقها في فدك واسقاط جنينها(5) وما جرى على الإمام علي، عليه السلام، بعد إبعاده عن الموقع الذي بوَّأه الله له من قيادة المسلمين ومن إهانة عظمى في الضغط عليه بوسائل القوة ليبايع أبابكر ثم ليرضى بحكم عمر والطامة الكبرى حين جُعل سلام الله عليه واحداً من ستة ليتم اختيار أحدهم في موقع الخليفة بعد عمر. فإذا كان «أساس الإسلام حبي وحب أهل بيتي»(6) كما قال رسول الله، صلى الله عليه وآله، فإن التعدي على هذا البيت المعظم هو هدم لأساس الإسلام وجوهره.
أهل البيت، عليهم السلام، الذين أوصى الرسول بهم وهم الثقل الثاني وعدل القرآن وفق نص الحديث الذي قاله النبي، صلى الله عليه وآله، كما في صحيح مسلم في باب فضائل علي بن أبي طالب: «أَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ.
هذا البيت المطهر الذي رفعه الله وأشاد به في عشرات الآيات (7)، وطلب الرسول من الأمة التمسك به قد حدث لهم العكس تماماً، فبدل التمسك بهم جرى الإبتعاد عنهم ولا يزال الابتعاد والإقصاء مستمراً بتعمد ممنهج في معظم الدول الإسلامية، فلا ذكر لهم الا نادراً ولا استفادة من تراثهم العظيم الذي هو اليوم محط استفادة عالمية وعدم الاستناد إليهم في الفقه والحديث وتهميش تاريخهم ومحو فضائلهم بل ونسبتها الى هذا وذاك. وبدل محبتهم وتقديرهم كواجب شرعي جرى ظلمهم وقتلهم وتشريدهم وسبهم ومحاربتهم من الدولتين الأموية والعباسية ومن أتبعهم من الضالين الى يومنا هذا عبر ما ذكرته من تهميش ومحو وتشويه.
وهكذا تسلسل إنفراط عقد عُرى الإسلام الواحدة تلو الأخرى حتى نشاهد في العصر الحديث، حالة الخضوع والتولي من قبل الكثير من الأنظمة الإسلامية لأعداء الله من دول الشر التي تقوم بنشر الضلال والفساد في بلادنا وفي العالم ككل وتقوم بسرقة ثروات المسلمين ودعم مختلف صور الإرهاب وتنفيذه في أراضينا وشن الحروب في بلادنا لتدميرها، وما تقوم به هذه الأنظمة من إقامة أفضل العلاقات السرية والعلنية مع الكيان الصهيوني وفي ذات الوقت معاداة بعض الدول الإسلامية الجارة لهم.
إن هذا الحديث النبوي الهام، يدعونا الى التأمل الكبير في مسار الأمة وضرورة الرجوع الى نهج أهل البيت، عليهم السلام، وترك حالة التشرذم والفرقة والاستعلاء على الحق بالبقاء على النهج الأموي الذي دمّر أكثر الأمة وأفسد عقيدتها.
————————————
(1). أخرجه ابن عساكر/ في «تاريخ دمشق»/ 36: 266، والطبراني/ 6847.
(2). تفسير القمي/ ج2/ ص413
(3). العُرْوَةُ من الثَّوْبِ: مدخَلُ زِرِّه
(4). بحار الأنوار/ للمجلسي/ ج 28/ ص8
(5). http://www.aqaed.com/faq/1408/ في هذا الموقع أدلة من كتب أهل السنة لما تعرضت له فاطمة الزهراء، عليها السلام، بعد وفاة أبيها النبي محمد، صلى الله عليه وآله.
(6). كنز العمال: ج 13 ص 90 ط. حيدر آباد
(7). ومنها آية 19 من سورة الإنسان، بعد أن صاموا ثلاثة أيام وفي كل ليلة قدموا إفطارهم لمن يطرق بابهم. راجع تفسير {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} في الدر المنثور للسيوطي.