لم تخفت جذوة التشيع في حلب بانقراض الدولة الحمدانية التي أسست أهم المراكز الحضارية في العالم الإسلامي، وشهد عهدها نهضة علمية وثقافية عظيمة امتد أثرها على مدى قرون عديدة، ونجد في وصف المستشرق الأمريكي ستيفن همفريز لعصر سيف الدولة الحمداني مدى التطور والازدهار الذي عاشته حلب حيث يقول: “في زمنه كان من الممكن لحلب أن تجاري أي بلاط في إيطاليا في عصر النهضة”.
وقد خلّفت الدولة الحمدانية الدولة المرداسية الشيعية الاثني عشرية للفترة (٤١٤ ــ ٤٧٢هـ / 1024 – 1079م) والتي حكمت أجزاء من سوريا ولبنان لأكثر من نصف قرن واتخذت من حلب عاصمة لها وقد ضم نفوذها إضافة إلى حلب منبج وبالس والرقة والرحبة ثم حمص وصيدا وبعلبك وطرابلس.
تعود جذور المرداسيين إلى بني كلاب الذين ينتهي نسبهم إلى عامر بن صعصعة، وهم فرع من قبيلة هوازن القيسية العدنانية التي كانت في الجاهلية تسكن الربذة في جهات المدينة المنورة وفدك والعوالي، وقد هاجرت إلى مناطق الشام والموصل تباعاً واستقرت بهما فأقامت بنو عقيل في الموصل، وقشير في قلعة دوسر، ونمير في الرها وحران، أما بنو كلاب الذين يتفرّع منهم المرداسيون فقد اتخذوا شمال الشام على ضفاف الفرات مقراً لهم.
وقد لعبت هذه القبائل دوراً كبيراً في الدفاع عن بلاد الإسلام حيث انضووا تحت لواء سيف الدولة الحمداني في المعارك التي خاضها ضد الروم فمثلوا قوة كبيرة في جيشه لشجاعتهم وبطولتهم وتمرّسهم بالحروب.
-
الوضع السياسي والهجرة
برزت هذه الدولة في عصر يضج بالفتن والاضطرابات والصخب والأوضاع غير المستقرة لبلاد المسلمين داخلياً وخارجياً، حيث النزاع على أشده بين العباسيين والحمدانيين والفاطميين والسلاجقة من جهة لضم المدن المتنازع عليها، يقابله هجمات البيزنطيين على بلاد الإسلام من جهة أخرى، وكانت هذه الأوضاع من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور الدولة المرداسية حيث كان الكلابيون من أهم القوى التي تقلب الموازيين لطرف متصارع على الآخر في تلك الفترة.
فرغم أن هذه الدولة قد تأسست سنة (414 هـ /1024 م)، إلا أن التاريخ يثبت لهذه القبيلة آثاراً قبل هذه الفترة بكثير وأن رجالها كان لهم دوراً في الأحداث التي قبلها، يقول ابن العديم: “إن جماعة من بني كلاب رحلت إلى الشام، في نهاية العهد الإخشيدي وبداية العهد الحمداني، وإن محمد بن طغج الإخشيد قد أقام أبا العباس أحمد بن سعيد الكلابي والياً على حلب سنة 325هـ”1 .
وهناك ما يشير إلى وصولهم إلى الشام قبل زمن الأخشيد بكثير، حيث يؤكد الواقدي مشاركتهم الفعالة في فتوح الشام في زمن عمر بن الخطاب فقال ما نصه: “وتقدم أهل مكة لفتح الشام وتبعهم بنو كلاب وطيء وهوازن وثقيف”2. وقال أيضاً: “فكان من جملة من قتل يوم قلعة حلب بالحجارة ….. ومن بني كلاب سبعة”3. كما ويذكر هجرتهم منذ تلك الفترة وإقامتهم هناك فيقول: “ونزحت إلى الشام قبائل من قيس”4، ويقول السويدي: “توالت هجراتهم إليها في العصرين الأموي والعباسي الأول وخاصة في عصر المأمون العباسي”5.
ويقول السيد حسن الأمين: “عاش بنو كلاب قرابة قرن في بلاد الشام قبل إقامة دولتهم، واستطاعوا بفضل كثرتهم العددية أن يفرضوا إرادتهم في منطقة حلب، كما خلقوا لأنفسهم المناخ المناسب لإقامة إمارتهم وسط القوى المتصارعة في ذلك الوقت. وهم كانوا انتقلوا من المدينة (يثرب) في الحجاز، واتجهوا شمالًا فسكنوا في غرب الضفة العليا لنهر الفرات، وذلك مع هجرات القبائل العربية منذ القرن السابع الميلادي. وقد لعبت هذه القبيلة دوراً هاماً في الحياة السياسية في سوريا عامة وفي شمالها بصورة خاصة، وذلك منذ القرن السابع حتى القرن الحادي عشر”6.
[ ..لم يعهد التاريخ الإسلامي من دافع عن حياض الإسلام ورد هجمات أعدائه أكثر من الشيعة، فحينما يهدد الإسلام أي خطر فإن أول من يهب لدرء هذا الخطر عنه هم الشيعة ..]
-
بين المرداسيين و صلاح الدين الأيوبي
لم يعهد التاريخ الإسلامي من دافع عن حياض الإسلام ورد هجمات أعدائه أكثر من الشيعة، فحينما يهدد الإسلام أي خطر فإن أول من يهب لدرء هذا الخطر عنه هم الشيعة، فيدافعون عنه وهم بأعلى درجات اليقين والحق والعدالة والعقيدة ويضحون بدمائهم وأنفسهم في سبيل أن تبقى شعلة الإسلام متوقّدة، وشريعته متوهجة، ورايته مرفوعة، وهذه الحقيقة أثبتتها الحقائق التاريخية عبر العصور.
والتاريخ يحتفظ بسجل حافل للفاطميين والحمدانيين والعماريين والمرداسيين والموحدين وغيرهم من البطولات العظيمة وهم يتصدون للهجمات البيزنطية على بلاد الإسلام، وقد وثقت هذه البطولات حتى مصادر الأعداء التي اعترفت بهذه الأمجاد للشيعة7.
وقد حل المرداسيون مكان الحمدانيين في الدفاع عن بلاد الإسلام والوقوف بوجه العدو البيزنطي، ورغم محاولات التعتيم من قبل المؤرخين على بطولات هذه الدولة ومواقفها العظيمة في التصدي للروم، وإتحاف من لا يستحق، بهذه البطولات فإن حقائق التاريخ كفيلة بإظهار الدور العظيم والمشرق للشيعة في حماية مدن الإسلام من الروم.
فالذي حمى بيت المقدس وصانه من أيدي الروم هم الشيعة وهذه الحقيقة لا غبار عليها، وهم الذين كانوا ينظرون إلى المسلمين على أنهم أمة واحدة بغض النظر عن اختلاف مذاهبهم، وكان هدفهم الأول والأخيرهو حماية البلاد الإسلامية من البيزنطيين لا كمن يتبجح به الغير على أنه صد الحروب الصليبية وقد كان يناصرهم على المسلمين سراً، وقد قتل من المسلمين الشيعة وغيرهم ما لا حصر له وعاث في الأرض فساداً وهو المجرم صلاح الدين الأيوبي.
يقول المحقق محمد صادق الكرباسي: “وكان الغرب المسيحي يتحيّن الفرص ليعيد الكرّة ويعيد سيطرته على ما فتحه المسلمون، ففتح عدداً من الجبهات إحداها وأولاها كانت جبهة بلاد الشام حيث وقع بينهم وبين الحمدانيين معركة عام 332 هـ سُمِّيت بمعركة مرعش، وكان النصر حليفاً للمسلمين إلا أنهم لم ينثنوا عن عزمهم حيث قاموا بالهجوم براً وبحراً على المسلمين واحتلوا جزيرة كريت عام 350 هـ ، ثم واصلوا هجماتهم على الجبهة الشامية ليتوغلوا في عمق الأراضي المقدسة، وقد خاض الحمدانيون حروباً طاحنة وتمكنوا من صد هجماتهم البرية عن بلاد الشام وبموت سيف الدولة عام 356 هـ وسقوط الدولة الحمدانية عام 394 هـ انهارت الجبهة الشرقية أمام البيزنطيين حتى تمكنوا من الوصول إلى شمال العراق ولكن لم يدم لهم ذلك حيث قامت الدولة المرداسية عام 414 هـ ، وأخذت هي الأخرى على عاتقها الحفاظ على الأراضي الإسلامية ووقفت بحزم أمام المد البيزنطي، ففي عام 421 هـ وصل ملك البيزنطنيين أرمانوس إلى حلب ومعه ملوك الروس والبلغار والألمان والبلجيك والخزر والأرمن في جيش قُدِّر عدده بستمائة ألف مقاتل فتصدى لهم المرداسيون وهزموهم وذلك على عهد نصر بن صالح المرداسي”8.
ثم يتحدث الكرباسي عن مؤامرات صلاح الدين مع الروم ضد الإسلام والمسلمين فيقول: “بدأت المعركة الحقيقية عندما احتل البيزنطيون مدينة انطاكية عام 491 هـ فجندوا قواتهم البرية والبحرية لمحاربتهم وبما أن الجبهتين السورية والمصرية كانتا معرضتين للهجوم الصليبي فقد طلب السلطان الفاطمي العاضد لدين الله ــ آخر خليفة فاطمي ــ (555 ـ 567 هـ) من السلطان الزنكي نور الدين (541 ـ 570 هـ) توحيد الجهود للوقوف أمام الهجوم الشرس والتحالفات الصليبية فلبى نور الدين نداءه فأرسل قائد جيشه أسد الله شيركوه ــ عم صلاح الدين ــ إلى القاهرة فوصلها عام 564 هـ ، وعندها ولاه العاضد الوزارة كدليل على توحيد الصف الإسلامي أمام التحالف الصليبي ولكن الأجل وافاه بعد شهرين فأراد العاضد أن يبقى على تحالفه فعمد الوزارة إلى ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي الذي كان قد رافقه من دمشق ولكن الأيوبي تآمر على العاضد عام 567 هـ وقضى على الدولة الفاطمية ثم تآمر على نور الدين في دمشق فاستولى على الشام أيضاً وذلك بالاعتماد على البيزنطيين وقد كان صلاح الدين يجلس معهم ليلاً ويحاربهم نهاراً ، ودعم حكمه في مصر والشام بالدعم البيزنطي وإبرام الاتفاقيات معهم”9.
[ .. حل المرداسيون مكان الحمدانيين في الدفاع عن بلاد الإسلام والوقوف بوجه العدو البيزنطي، ورغم محاولات التعتيم من قبل المؤرخين على بطولات هذه الدولة ومواقفها العظيمة في التصدي للروم ..]
-
معركة بطولية لا ينساها التاريخ
ولا نريد أن نبتعد كثيراً عن الموضوع بعرض هذه التفاصيل ولكن ذكرنا ما يفي بالغرض من الإشارة إلى الاجحاف الذي تعرض له التاريخ الشيعي من قبل مؤرخي السلطة ووضع هالة من البطولات الكاذبة والمزيفة لأعداء الشيعة ونترك الحديث الآن للسيد حسن الأمين وهو يشير إلى هذا الموضوع في معرض حديثه عن المعركة التاريخية التي هزم فيها شبل الدولة نصر بن صالح المرداسي الروم شر هزيمة وأسر ملكهم يقول الأمين:
“ويضيع ذكر بطولات المرداسيين في ثنايا التاريخ فلا يحفظ لنا منها إلا نتفا موجزة، هي صورة مجلوة لمآتيهم، فتمثلهم وقد تجردوا لرد الغارات وحفظ العواصم، واستبسلوا في الحفاظ على ما بأيديهم من الوطن العربي، ولا أدل على ذلك من هذه الوقعة الواحدة التي ترينا مدى الخطر الفادح الذي داهم بلاد الشام فكان المرداسيون أكفياء له أي أكفياء”10.
ثم يتطرق الأمين إلى تلك الوقعة فيقول: “ففي العام 421 هـ أي بعد مقتل صالح بعام واحد وصل ملك الروم (أرمانوس) إلى حلب ومعه ملوك الروس والبلغار والألمان والبلجيك والخزر والأرمن ــ كما نص المؤرخون ــ في ستمائة ألف من الإفرنج فتصدى لهم شبل الدولة نصر بن صالح، ووقف في وجه زحوفهم الكثيفة حتى هزمها وتبعهم إلى أعزاز وأسر جماعة من أولاد ملوكهم وغنم المسلمون منهم غنائم عظيمة”.
ثم يعلق الأمين على أهمية هذه المعركة في التاريخ فيقول: “وتعتبر هذه المعركة من المعارك الفاصلة في تاريخ العرب والمسلمين إذ قل أن تسنى للغزاة أن يحشدوا مثل هذا الحشد العظيم، ويؤلبوا مثل هذه القوى الرهيبة .. ستمائة ألف مقاتل كانت شيئا مخيفا في تلك الأيام لا سيما أمام دولة ناشئة كالدولة المرداسية”.
-
النمو الاقتصادي والعمراني
أما التطور والازدهار والتمدن والتقدم الحضاري الذي عاشته حلب في أيام المرداسيين فقد تحدثت عنه المصادر الكثيرة وأكدت على أن المرداسيين قد حافظوا على الحضارة التي صنعها الحمدانيون وكانوا امتدادا لهم في الاهتمام بالمناحي العلمية والعمرانية والاقتصادية فكان لنشاطهم التجاري اثرا كبيرا في ازدهار الأوضاع الاقتصادية لحلب وثرائها، حيث كانت تمر بها قوافل التجارة من جميع الجهات، وكان للرحبة أهمية تجارية كبرى كونها ذات صلة بين الشام والعراق والبادية. ونظرا لهذا التوسع في التجارة ونمو الاقتصاد فقد سك المرداسيون نقوداً خاصة بهم منذ بداية دولتهم على يد أميرهم الأول صالح بن مرداس.
———————————
1 ــ زبدة الحلب في تاريخ حلب
2 ــ فتوح الشام ج 1 ص 15
3 ــ نفس المصدر ج 1 ص 247
4 ــ نفس المصدر ج 1 ص 3
5 ــ سبائك الذهب ص 43
6 ــ دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ج 3 ص 378
7 ــ كتاب الدمستق نقفور فوكاس تأليف شلومبرغر
8 ــ دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ج 1 ص 179 ــ 180
9 ــ نفس المصدر ص 181 ــ 182 ــ 183
10 ــ دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ج 3 ص 381