في أواخر رجب المرجب، شهر الله ووليه أمير المؤمنين عليه السلام، وهناك في عمق الصحراء العربية، وأعالي جبال مكة النورانية، وحيث كان محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وىله، يتحنَّف، ويتعبَّد كعادة جدِّه شيبة الحمد؛ عبد المطلب، وهو إبراهيم الثاني، تجلى ملاك الرَّب، ورسول الوحي (جبرائيل)، وقال له: “السلام يقرؤك السلام ويأمرك بحمل الرسالة، وتبليغ آيات القرآن”.
فقال: “ربنا هو السلام ومنه السلام وعليك السلام أخي يا جبرائيل ومن أين أبدأ”؟
قال: ابدأ من {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. (العلق: 5).
قال :”سمعاً وطاعةً لله ربِّ العالمين، وأساله أن يُعينني على أمري بأخي هذا علي بن أبي طالب، لأنه خير فتى وأفضل معين لي لأنني ربَّيته في حجري، وحملته على صدري، وغذَّيته بيدي، وأطلعته على سرِّي، وائتمنه على جميع أمري”.
قال :”هو نصفُ نفسك، وروحه شطر روحك، ونوره من نورك يا أيها المصطفى للرسالة، فهو المرتضى للولاية، واعلم أنه لا يُبلِّغ عنك إلا هو في أمتك فأوصه بكل ما أهمَّك وأوصِ به أهلك وبني عمِّك، حتى يعرفوا له حقه، ولا يستصغروا له سنه، فهو وليهم وسيدهم وإمامهم من بعدك“.
“إذا اردنا أن نعرف بداية الوحي علينا أن نأخذه ممَنْ حضره لا من امرأة وُلدت بعده بخمس سنين – كما يقولون ويدَّعون – وذاك علي بن أبي طالب، عليه السلام”
هكذا أتصوَّر أنها كانت بداية الوحي المقدَّس الذي بدأ في السابع والعشرين من رجب الخير، لا كما يرويه أصحاب الجهل المركب، وأتباع أبي الجهل الذين يصفون رسول الله، صلى الله عليه وآله، بأوصاف تليق بهم، من التزلزل، والريب، والشك، وتصل بهم حتى يلقونه من شاهق، ويجعلون ورقة بن نوفل مَنْ يثبِّته بالناموس الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وهنا تستغرب من جهل أولئك، بمحمد بن عبد الله رسول العرب، يأخذونه إلى ورقة بن نوفل وهو نصراني، فيقول له :هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى ولو سألتهم :لماذا موسى وليس عيسى بما أنه نصراني؟
لما وجدوا جواباً، لأن الرواية من الإسرائيليات ولكن ذُهل راويها عن هذه المسألة لتنكشف الحقيقة لنا ولكن هذه الأمة مازالت ذاهلة عن الحق والحقيقة، وهي مصرَّة بشكل عجيب على رسم تلك الصورة الغريبة لرسول الله، صلى الله عليه وآله، في أعظم تجلي في حياته الشريفة، والتي كان يجب أن يكون فيها بأزهى وأحلى صورة ،وأعلى وأرقى نفسية ومعنوية في التاريخ، يتنزَّل القرآن الحكيم كلام الله العظيم، على رسوله الكريم ويكون “مرعوباً يرتجف حتى فؤاده” كما يصفونه.!
ولهؤلاء نقول :يا أيها الناس جبرائيل، عليه السلام كان خادماً لرسول الله، صلى الله عليه وآله ولأهل بيته الأطهار ولا يمكن أن يتعامل مع رسول الله بهذه الطريقة من الفظاظة، والشدة، والقسوة في يوم المبعث، فدوره كان تشريفاً له، وليس تكليفاً، ولكن من أجل الأمة الإسلامية لترتبط بالوحي عن طريق تبليغ رسول الله، وليطمئنوا أنه من عند الله وليس من عنده هو، فكان يقول لهم :”أنتظر وحي ربي، وأسأل أخي جبرائيل، ونزل عليَّ جبرائيل ،وهكذا ليسكنوا هم ويطمئنوا للوحي المنزل على الرسول المبجل، ولا يتهمونه أو يظنون به ظن السوء، وقد فعلوا ومازالوا يفعلون ذلك.
فإذا اردنا أن نعرف بداية الوحي علينا أن نأخذه ممَنْ حضره لا من امرأة وُلدت بعده بخمس سنين – كما يقولون ويدَّعون – وذاك علي بن أبي طالب، عليه السلام، الذي يقول :”وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّة.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ(صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر“. (نهج البلاغة: خ192 القاصعة).
“هذه الأمة إلى اليوم تصرُّ على اتباع السامري، وتطارد علي، عليه السلام، وأبنائه، وشيعته، لقتلهم تحت كل حجر ومدر فكيف تقوم لها قائمة، أو تقوى لها شوكة، أو تنهض من كبوتها من تحت أقدام الصهاينة واليهود ويقودها أقزام من أبناء السامري وأزلامه”
فالنور انبثق من جبل حراء، ولم يحضره أحد من أهل الأرض إلا محمد وعلي صلوات الله عليهما، فيأخذون أحاديث بدء الوحي من امرأة لم تولد بعد، أو من شخص كان يعبد الأصنام في أرض دوس، ولهذا وقعوا بهذه الهوَّة السحيقة من الباطل، حيث نزل الوحي وقام الرسول متهللاً بآيات القرآن الحكيم، ومعه ابن عمِّه الفتى علي بن أبي طالب، عليه السلام الذي كان يُرافقه ويتَّبعه، “وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ”، ولكن القوم لا يحبون علياً فكيف يذكرونه؟
فالوحي منذ اليوم الأول كان منقسماً بين رسول منزِّل، وولي مؤوِّل، بين نبي ووصي، ولا يمكن أن تكون رسالة بدون ذلك، فكما أن لكل رسالة رسول فإنه لكل رسول وصي يأخذ عنه، ويقود أمته إذا غاب عنها، ويقوم مقامه فيها، فمَنْ تَبِعه فهو السعيد، ومَنْ عصاه فهو الشقي، وهو ما نستفيده من حديث المنزلة الشبه متواتر :”يا علي؛ أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي”، ولكن الأمة تركت هارونها كما ترك بنو إسرائيل هارونهم وقادهم السَّامري إلى عبادة العجل الذهبي الذي صنعه لهم من حُلي نسائهم وبناتهم، مستفيداً من قبضة تراب من أثر درمك جبرائيل، فألقاها فيه فراح يُصدر صوتاً كأنه الخوار فعبدوه وتركوا عبادة الرب الجبار.
وهذه الأمة إلى اليوم تصرُّ على اتباع السامري، وتطارد علي، عاليه السلام، وأبناءه، وشيعته، لقتلهم تحت كل حجر ومدر فكيف تقوم لها قائمة، أو تقوى لها شوكة، أو تنهض من كبوتها من تحت أقدام الصهاينة واليهود ويقودها أقزام من أبناء السامري وأزلامه؟
فالتاريخ يُحدِّثنا بأن العرب كانوا أمة متفرقة جاهلة ليس فيها مَنْ يكتب إلا بعدد الأصابع، فجاءها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ونزل عليها القرآن الحكيم، فرفعها، ووحدها، وعلمها، وزكاها، وبنا لها حضارتها التي حكمت ثلث العالم القديم لأربعة عشر قرناً، وخلالها علَّمت العالم مبادئ الرُّقي، والحضارة الإنسانية من أنواع العلوم والقيم والفضائل.
واليوم رجعت الأمة العربية إلى تشتتها بفارق بسيط كانت قديماً قبائل وعشائر، واليوم دولاً وممالك، فالحال واحدة من حيث الفرقة وبينهم أبشع مما كان بين القبائل من التقاتل والتناحر والغزو المتبادل، فها هم عربان نجد بكل فظاظتهم، وجفوتهم، وغلظتهم، يحاولون غزو العراق بتاريخه، والشام بحضارتها، واليمن بأصالته، معتمدين على قوَّة الروم ودهاء بين صهيون.
فحال الأمة اليوم يُخبرنا عن حقيقة ما كانت عليه قبل قرون يوم أنزل الله عليها القرآن الحكيم، وبقيادة الرسول الكريم صنعوا المعجزات، واليوم إذا أردنا أن ننهض من كبوتنا وتعود لنا قوتنا وهيبتنا بين الشعوب والأمم علينا أن نرجع إلى القرآن الحكيم، ونتخذه كتاب حياة لا كتاب موت، لا نقرؤه إلا على الموتى وللتبرك في شهر رمضان.
وهنا نأخذها من المرجع الديني آية الله السيد المدرسي (حفظه الله) حيث يقول: “من المؤكد أنّ نهم البطن، وعطش الكبد لا يضرّان بالإنسان بقدر ما يضرّه نهم الروح وعطش العقل وحاجة الضمير، فأرواحنا تبحث دوماً عن بَرد اليقين، وعقولنا ظمأى إلى العلم والمعرفة، ونفوسنا بحاجة إلى السكينة والاطمئنان.
إنّ القرآن الكريم هو مصدر هذه السكينة، وهو الكفيل بأن يروي ظمأنا وتعطشنا إلى العلم والمعرفة، وللأسف فإننا نعيش على شاطئ هذا الكتاب العظيم، وفي وسط رياضه ولكن البُعد بيننا وبينه كالبُعد بين الأرض والسماء، وإنها لمأساة كبرى علينا أن نبحث عن حل للقضاء عليها قبل فوات الأوان، فنحن نعيش كل يوم آلاف القضايا التي تضغط علينا باتجاه الحل ولكننا لا نعرف لها حلاً، وضمائرنا ملتاعة تبحث عن وجدان ديني يزيل اضطراب قلوبنا ولا نجد هذا الوجدان، فننهزم أمام شهواتنا ونعلم أننا قد انهزمنا، وأنه كان من المفروض أن لا ننهزم، ونعلم أن البطولة هي في مصارعة النفس، وهكذا نظل ندور في هذه الدائرة المغلقة.
إنّ الذي يعطينا القوة هو القرآن، والذي يغمرنا بالسكينة هو القرآن، فلماذا بيننا وبين هذا الكتاب هذه المسافة الطويلة؟” (القرآن حكمة الحياة: ص20).
هي دعوة في يوم انبعاث النور على جبل النور، ونزول القرآن الحكيم على الرسول العظيم، صلى الله عليه وآله، في يوم المبعث الشريف، وفي هذه الأيام المباركة، حيث نودِّع شهر رجب ونقترب من شهر شعبان الذي تتشعب فيه الخيرات والبركات، فليكن القرآن الحكيم شعارنا ودثارنا في ليلنا ونهارنا، وقومنا ونومنا، لا سيما وأن هذا البلاء (الكورونا) يُحاصرنا في منازلنا وبيوتنا والكل خائف منه ولا يدري ما المصير، وليكن القرآن ملجأنا وملاذنا في هذه الأيام لعل الله يرفع عنا هذا الإصر والأغلال التي فُرضت علينا، وتعود لنا قوتنا وتُحلُّ جميع مشاكلنا.
لقد صرنا في حيرة من أمرنا فالأعداء يتناهشون لحومنا، والأمراض تفتك بنا، والمشاكل تغزونا من كل حدب وصوب فالحليم حيران، والعاقل مبهوت لا يدي ما يتصرف، ولكن الجميع على ثقة ويقين أن الأمر بيد الله من قبل ومن بعد، وهذا كتاب الله وحبله الممدود ما بيننا وبينه، فلنتمسَّك به ولنعتصم بعروته الوثقى وهي أهل البيت الأطهار، عليهم السلام فعندهم الحلول، ولا حلول إلا عند آل الرسول، فهما الثقلان اللذان مَنْ اعتصم بهما فاز ونجى في هذه الحياة، عصمنا الله وإياكم من الزلل والخطل، ورزقنا توفيق الطاعة وقبول العمل.