السيدة زينب الكبرى، زين أبيها أمير المؤمنين، عليهما السلام، وبضعة أمها سيدة نساء العالمين، عليها السلام.
الشجاعة الأدبية هي التمسك بقول الحق، والتزام الصدق في ذلك رغم كل الظروف، وهي من أعظم الجهاد كما في الرواية الشريفة عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر“.
فالشجاعة إذن؛ من القوى الغضبية العاقلة، التي تترفع من جهة عن الجبن والخوف المذموم، وعن الذِّلة والدناءة والضعة، ومن جهة أخرى تتريث من التهور والموقف المتعجل، والكلمة التي لا تمر بتحليل الفكر الناضج، قال الإمام علي، عليه السلام: “الشجاعة نُصرة حاضرة، وقبيلة ظاهرة“. (غُرر الحكم: ح1700).
والشجاعة ليست مجرد إقدام على الخصم، وإهواء السيف على رأسه، إنما الشجاعة الحقَّة ما كانت جهاداً في سبيل الله، وتحقيقاً لطاعته، وإقداماً على هدى من الله، ودفعاً لأعدائه، وتحصيناً لدين الله، وحماية لعباده، وإلى ذلك كله لابد للشجاعة الحقيقية أن تعبِّر عن العزَّة، والكرامة، والإباء، وعن الشهامة، والمروءة، والترفُّع عن حب الدنيا وأطماعها، فإن الشجاعة مجردة عن ذلك تكون تهوراً، وحباً للانتقام، وطلباً للسمعة، ووقوعاً في معصية الله، وسقوطاً في شراك الشيطان.
فقد يراد من المؤمن أن يرضى بالضيم، ويقعد على بساط الذل، وأن يسكت مع الإهانة والهوان، ويحجم عن الدفاع عن دينه وعرضه، ويوسم بالذكر السيئ، فلا يعرب عن رفضه، ولا يبدو منه ردة فعل أبية، هكذا يراد منه أحياناً، لكن الإباء يمنعه أن يرضى، والحمية تنكر عليه أن يسكت، فينتفض الشجاع ولا يقبل بشيء دون عزته وكرامته، وهنا تكون شجاعته على قدر ما رزق من شرف الإباء.
-
السيدة زينب اللبوة الحيدرية
هذه هي الشجاعة التي اتصفت بها عقيلة الهاشميين، وهي شجاعة قلَّ نظيرها في بنات جنسها ولن تجد نظيراً لها إلا أمها، سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء، عليها السلام، التي وقفت في مسجد أبيها رسول الله، وقفة لا نظير لها في وجه السلطة القرشية، ليس لها شبيه أو نظير إلا وقفة ابنتها العقيلة في قصر الطاغية الأموي القرشي يزيد بن معاوية.
ففي ذاك البيت الذي هو أشرف بيت في الوجود لأن فيه أهل الكساء الخمسة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ولدت السيدة زينب.
شجاعة قلَّ نظيرها في بنات جنسها، ولن تجد نظيراً لها إلا أمها الزهراء، عليها السلام، التي وقفت في مسجد أبيها رسول الله، وقفة لا نظير لها في وجه السلطة القرشية
وصحيح أن السيدة زينب، عليها السلام، لم تكن من أهل الكساء لأنها لم تكن قد ولدت بعد، كما هو مشهور من خلال السيرة النبوية المباركة، إلا أنها منهم بالقوة قبل أن تخرج للفعل، وقد صدق شاعر أهل البيت، الشيخ أحمد رشيد مندو، بقوله:
لو كنت يوم كساء الأهل حاضرة
كان الكساء بذاك اليوم غطَّاك
تلك الأسرة المعصومة التي ليس فيها إلا إمام ومعصوم، درجت السيدة زينب، فما رأيك بمولودة سمَّاها ونمَّاها جدها رسول الله أربع سنوات؟ وما رأيك بالبنت الأولى لأمها سيدة النساء فاطمة الزهراء، التي ربتها حوالي خمس سنوات؟
وما رأيك بطفلة كانت زيناً لأبيها أمير المؤمنين، الذي عاشت معه حوالي خمس وثلاثون سنة، وكان يعاملها كأخويها الحسن والحسين، عليهما السلام، كما في سيرته العطرة؟
وأما أخاها الأكبر والسبط الأول للرسول الأعظم، الذي رافقته حوالي خمساً وأربعين سنة، وأما سيدها وأخاها السبط سيد الشهداء الذي رافقته في كل حياته منذ أن ولدت حتى استشهد في يوم عاشوراء الفاجعة أمام عينيها، ولو استطاعت لوضعته في داخلهما وأغمضت عليه كي لا يُصيبه مكروه من أولئك الأوغاد الذين لم يتركوا مكروهاً، أو محرماً، أو حتى منكراً إلا واقترفوه بحقه.
إن السيدة زينب من أهل البيت الأطهار، نسباً وحسباً وولادة وتربية وتعليماً، ولذا تفتَّحت كل أزاهير العبقرية الرسالية في شخصيتها المباركة فأهل البيت، عليهم السلام، صنائع الله –تعالى- وهي من صنائع الله، و صنائع أهلها الأطهار، فكانت تلك الشخصية المتميزة في كل شيء؛ من العلم والحلم والشجاعة والفصاحة والأدب، هذا عدا عن كل ما كانت تختزنه شخصيتها الأنثوية.
التربية النموذجية للسيدة زينب ربما يفسر لنا ذلك السؤال المحيّر منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا: لماذا حمل الإمام الحسين، عليه السلام، العيال والأطفال معه وهو يعلم أنه مقتول، وهُنّ مسبيات؟
كانت عظمتها تنبع من نفسها المقدسة لأنها كانت لديها كل القابلية لحمل الرسالة، وإلا فإن تكليفها يكون بغير المقدور وهذا لا يمكن، فقابليتها كانت عظيمة، ومن تربيتها أيضاً لأنها تلقت تلك التربية الربانية في ذلك البيت المقدس، ولدى تلك الأسرة الطاهرة لتكون الحاملة للرسالة، والحافظة للعيال، والناطقة باسم الدين إلى أن تنقشع الغمامة عن أصل الإمامة.
تلك كانت مهمتها في هذه الحياة، وعلى أساس هذه المهمة تلقت تربيتها النموذجية وربما هذا الفهم للمسألة يفسر لنا تلك المعضلة التي استعصت على كبار الأعلام من عهد الصحابة والى اليوم، وهي: لماذا حمل الإمام الحسين، عليه السلام، معه العيال والأطفال وهو يعلم أنه مقتول، وهُنّ مسبيات؟ وهو معنى قوله، عليه السلام، لأخيه محمد ابن الحنفية ولعبد الله بن عباس وغيره ممن استنكروا حمله العيال: “شاء الله أن يراهن سبايا”.
والتاريخ يُحدِّثنا عن السيدة زينب ومواقفها ما تشيب منه الرؤوس الفتية، وتنبهر به العقول الرزينة، وسنذكر موقفين فقط في المقام، لنعرف مدى الشجاعة الأدبية التي تمتعت بها اللبوة الحيدرية، والبضعة الفاطمية، وهي الخَفِرةُ التي لم يُرَ خيالها قط، ولكنها تقف مواقف يعجز الرجال الأشداء عنها، لعظمتها وهيبة الموقف والمجلس الذي تقوم فيه روحي فداها.
-
1- في الكوفة (مجلس الأمارة)
يروي التاريخ؛ قال بشير بن خزيم الأسدي: “ونظرت إلى زينب بنت علي يومئذ فلم أر خفرةً ـوالله ـ أنطق منها، كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس”.
فأي قوَّة كانت لتلك الشخصية إذن، بحيث حتى البهائم وقفت وسكنت؟
وأي هيمنة كانت لها على ذلك الموقف الرهيب وهي سبية ومعها ركب سبايا؟
هل كان لها ولاية تكوينية على أولئك الناس؟
وأما بعد خطبتها فيقول الراوي: “فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حَيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم وأمّي! كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل لا يُخزى ولا يُبزى -لا يُقهر-“.
وقال شيخنا المفيد: “فادخل عيال الحسين بن علي صلوات الله عليهما، على ابن زياد، فدخلت زينب أخت الحسين، عليه السلام، في جملتهم متنكرة وعليها أرذل ثيابها، ومضت حتى جلست ناحية، وحفت بها إماؤها، فقال ابن زياد: مَنْ هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب فأعاد القول ثانية، وثالثة يسأل عنها فقالت له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله، فأقبل عليها ابن زياد وقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم، فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد، صلى الله عليه وآله، وطهرنا من الرجس تطهيراً، إنما يُفتضح الفاسق، ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة”.
فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: “ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة”!
-
2- في الشام (مجلس الحكومة)
وأما الشام -وما أدراك ما الشام- ففي رواية الشيخ الصدوق انه لما دخل علي بن الحسين، عليهما السلام، وحَرمه على يزيد جيأ برأس الحسين، عليه السلام، ووُضع بين يديه في طشت، وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده وهو يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
فقامت السيدة زينب، وقالت خطبة من أعظم ما نطق به لسان، وأشجع ما قاله إنسان بوجه شيطان، ومما قالت، سلام الله عليها، نقتطف كلمات هي رصاصات موجهة لرأس الطاغية.
“أمِن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا“.
“ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى، ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء“.
“فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيَّامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين“.
هل نقول: شجاعة، أم بسالة، أم أنها لا توصف بالحقيقة، فهذا الموقف يُحيِّر العقول؟ إنها السيدة زينب الكبرى بضعة فاطمة الزهراء التي كان يخدمها قمر العشيرة، أخوها أبو الفضل العباس، مفتخراً على الهاشميين بأن يكون كفيل العقيلة الهاشمية.
وعندما نتحدَّث عن زينب، نخشع وننكس الرأس خجلاً مما جرى عليها، وربما تكون النساء أشجع منا فتشمخ بأنفها وترفع رأسها لأن زينب الطُهر، عليها السلام، منهن جنساً، فيقتدين بها علماً وعملاً.