{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. سورة البقرة: 254.
-
مَنْ هو أكرم الناس عند الله؟
ربما لو أجبنا على هذا السؤال بآرائنا وتصوراتنا الشخصية، لاختلفت الإجابات بعدد اختلاف الرؤى والنظرات. ولكننا نلجأ الى الله نفسه لكي نعرف مَنْ هو أكرم الناس عنده، يخاطبنا الرب المتعال في الآية الثالثة عشر من سورة الحجرات مجيباً على سؤالنا بقوله، عزَّ وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالأتقى هو الأكرم، والتقوى هي الميزان.
وهنا نواجه سؤالا آخر:
-
ما هي التقوى؟
في الآيات الأولى من سورة البقرة نجد جوابا شافيا على ذلك: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.
ولكن مَنْ هم المتقون؟ تجيب الآية التالية بطرح معايير ثلاثة تفرز المتقين عن غيرهم:
1- {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. الغيب الذي يشمل الإيمان بالله، والرسل، والكتب، والمعاد.
2- {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} باعتبار أنَّ الصلاة أهم وأبرز العبادات، وهي عنوان صحيفة المؤمن، وهي أوّل ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة.
3- {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
فبعد الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، يأتي الإنفاق كشاهد صدق على حقيقة الإيمان بالغيب، ومدى تأثير إقامة الصلاة في الحياة والعلاقات الإجتماعية للمؤمن.
إذن، الإنفاق مما رزقنا الله – كأبرز مصداق للتكافل الإجتماعي والتضامن بين فئات الناس المختلفة – هذا الإنفاق هو مكمِّلٌ للايمان والصلاة، للعقيدة والعبادة.
فأنْ تدَّعي الإيمانَ بالغيب، وتتظاهر بإقامة الصلاة، ولكن دون الإنفاق، يعني – بكل صراحة – أنَّ الإيمان مخدوش، وأنَّ الصلاة لم تؤدِّ دورها في بناء الشخصية الإيمانية للفرد، بل بترك الإنفاق يقترب الإنسان خطوة أو خطوات الى الظلم والكفر.
قد تكون هذه النظرة ثقيلة جداً عند البعض، ولكنها الحقيقة التي نستلهمها عبر التدبر في آيات الإنفاق المتعددة في القران الكريم.
المؤمن يتميَّز عن غيره بالحسِّ الإجتماعي التكافلي الرفيع، فهو يحسُّ بآلام الآخرين، ويتضامن معهم لحل مشاكلهم، ويمد يد العون لمن يفتقر للمساعدة
فلنتدبَّر معاً في الآية مئين واربعة وخمسين من سورة البقرة التي صدرنا بها بداية المقال.
فالآية تبدأ بمخاطبتنا بعبارة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، وهذا الاسلوب القرآني يعني أنَّ ما يأتي الحديث عنه في الآية الكريمة (وهو الأمر بالإنفاق) له علاقة وثيقة بالإيمان، بل هو من علامات المؤمن، ومن مكمِّلات الايمان أو تطبيقه الميداني.
وفي الحقيقة إنَّ ما نستلهمه من نصوص الكتاب والسُّنّة، ومن سيرة المعصومين عليهم أفضل الصلاة والسلام، ومن حياة وسلوك الرعيل الأول من الأمة الإسلامية، هو أنَّ التكافل الإجتماعي والإهتمام بأمور المسلمين، بل حتى غير المسلمين ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي وتحت ظل الولاية الإسلامية، إنَّ هذا التكافل والإهتمام يُعدّان من أسس كيان المجتمع الإسلامي، فالمؤمن ليس فردا يحيا لوحده، ولا يعيش في شرنقة ذاته فقط، ولا يحصر تفكيره واهتمامه في مصالحه الشخصية فحسب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}،الانفاق ليس مما أملكُ أو تملك، وأساساً أنا وأنت لا نملك شيئا، إنَّ ما في أيدينا إنما هو رزق من الله تعالى، وهو القادر على توسعة هذا الرزق أو تضييقه، ولكي يوسِّع الرزق علينا فوظيفتنا الإنفاق مما رزقنا
إنما المؤمن يتميَّز عن غيره بالحسِّ الإجتماعي التكافلي الرفيع، فهو يحسُّ بآلام الآخرين، ويتضامن معهم لحل مشاكلهم، ويمد يد العون لمن يفتقر للمساعدة، ويهتم بالمريض، ويسعى لإغناء الفقير، ويبذل مما يملك في سبيل راحة الآخرين، فهو ممّن {يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، فهو يبذل الشيء لغيره حتى لو كان هو يحتاج اليه، إنه قمة العطاء والتكافل والإيثار.
ففي المجتمع الاسلامي الذي يؤكِّد الدين على بنائه لا تجد من يمدّ يد الاستجداء للآخرين، لأنَ الآخرين هم الذين يبادرون بمد يد العون اليه، لأنَّ تعاليم الدين تؤكِّد علينا أن لا ننتظر المحتاج يسألنا فنعطيه، بل علينا أن نبحث عن المحتاج فنسعفه، أن نبحث عن المريض غير القادر على العلاج فنعالجه، أن نبحث عن الجائع المسكين فنطعمه، أن نبحث عن الفقير فنغنيه.
وهكذا تجد رائحة الإيمان تتضوّع في مثل هذا المجتمع، وتجد آثار الصلاة بيِّنة على العلاقات بين أبناء المجتمع.
فـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}، فالانفاق ليس مما أملك أو تملك، وأساساً أنا وأنت لا نملك شيئا، إنَّ ما في أيدينا إنما هو رزق من الله تعالى، وهو القادر على توسعة هذا الرزق أو تضييقه، ولكي يوسِّع الرزق علينا فوظيفتنا الإنفاق مما رزقنا.
والملاحظ في هذه الآية – وسائر الآيات الأخرى الواردة حول الإنفاق – أنه لا يوجد تحديد لسقف ما يملكه الفرد لكي ينفق إنْ رزقه الله بهذا القدر، وأنْ يمسك إنْ كان أقل، بل العبارات عامة ومطلقة: {مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} من قليل أو كثير، فان كان الرزق قليلا فان الانفاق يكون قليلا بالطبع، ولو كان إنفاقا رمزيا، وإنْ كان الرزق واسعاً كثيراً فبما يناسبه يكون حجم الإنفاق، فهو مما رزقنا الله تعالى، وعبارة (ممّا) تعني (البعض)، سواء كان هذا البعض قليلا أو كثيرا.
فعلى المؤمن أن ينفق مما رزقه الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}، وهكذا يربط الله عزَّ وجل بين الإيمان بالغيب والإنفاق من جهة، وبين الإنفاق والمصير في الآخرة من جهة أخرى.
ففي القيامة لا توجد صفقات لشراء الحسنات والدرجات العُلى، فهو :{يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ}، إنما البيع والشراء في الدنيا، فهنا تستطيع شراء درجات الجنة وقصورها ونعيمها بالإنفاق، هنا تستطيع أن تمحو سيئاتك وتتخلَّص من آثارها السلبيّة من خلال الإهتمام بالآخرين والتكافل معهم.
كما أنَّ يوم القيامة لا تنفع فيها {خُلَّةٌ}، فالصداقات لا تنفع هناك، فكل صديق مشغول بنفسه، إنما الصدقات التي قدمتها من الدنيا هي التي تنفعك. كما لا تنفعك الشفاعة في هذا المجال، إذ لا تقوم الشفاعة مقام (الإنفاق) الذي لم تبادر اليه في الدنيا.
فعلينا – إذن – أن نبادر للإنفاق مما رزقنا الله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} ثم {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. تشير خاتمة الآية الى أنَّ الإمتناع من هذا الواجب الاجتماعي هو شعبة من الكفر، إذ – كما لاحظنا في الآيات الاولى من سورة البقرة – ربط الله تعالى بين الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق من رزق الله، فالإمتناع من هذه الوظيفة الإجتماعية يعني النقص في الإيمان، ويعني انعدام فائدة الصلاة، وبالتالي: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، فمن لا ينفق يكفر بالقيم التي يزعم الايمان بها من جهة، ومن جهة أخرى يظلم الفقراء والمساكين، كما يظلم نفسه أيضاً بخسران الفلاح في الآخرة.