في التاريخ الإنساني قمم شاهقة، وذرى سامقة، تحكي لك حقيقة الإنسان في هذه الحياة، وللقمَّة معنى لا يعرف التذكير والتأنيث فكما في التاريخ قمم من الذكور كذلك هناك قمماً من الإناث جعلها الله لنا مناراً لتهتدي بها الأجيال عبر العصور والدهور لا سيما أهل جنسها، ومن تلك القمم الشاهقة في دنيا المرأة هي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، عليها السلام، التي لا يساميها أو يساوقها الرجال عدا النساء، لأنها فاقت الجميع وكانت حجة من حجج الباري على حجج الله تعالى كما في الرواية عن الإمام الحسن العسكري، عليه السلام، : “نحن حجج الله على خلقه، وجدتنا فاطمة حجة الله علينا”.
ومنها كانت القمَّة السامقة، التي بزَّت النساء علواً وارتفاعاً وتجاوزت السماء سمواً وسناءً، إنها بضعة البضة النبوية الطاهرة، تلك النسمة التي خلقها الله في بيت وصفه بالطهارة والنزاهة وأمر أن ترفع أركانه ليكون مهبط وحي الله، ومساكن ذكره وتعظيمه، إنها السيدة زينب الكبرى، بضعة فاطمة الزهراء، عليها السلام، وزين أبيها أمير المؤمنين عليه السلام، وفخر أخويها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، التي كان يخدمها قمر العشيرة أخوها أبو الفضل العباس، مفتخراً على الهاشميين بأن يكون كفيل العقيلة الهاشمية زينب الكبرى، فعندما نتحدَّث عن زينب نخشع وننكس الرأس خجلاً مما جرى عليها، وربما تكون النساء أشجع منا فتشمخ بأنفها وترفع رأسها لأن زينب، عليها السلام، منهن جنساً، فيقتدين بها علماً وعملاً.
-
زينب عليها السلام أيقونة الطُهر
التاريخ يُحدثنا عن العقيلة الهاشمية وسيرتها العلمية والعملية العجب العُجاب من عفَّتها وصيانتها وطهارتها بحيث أنها لم تخرج في نهار أبداً لذا قيل: أنها لم يرَ خيالها أحدٌ قط قبل يوم عاشوراء، هي ليست صغيرة بل تجاوزت الخامسة والخمسين من عمرها الشريف، وكما في رواية المازني، الذي قال: “كنتُ في جوار أمير المؤمنين ،عليه السلام، في المدينة مدّة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه ابنته زينب عليها السلام، فلا والله ما رأيتُ لها شخصاً ولا سمعتُ لها صوتاً، وكانت إذا أرادتْ الخروج لزيارة جدّها رسول الله، صلى الله عليه وآله، تخرج ليلاً، والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل، فسأله مرّة عن ذلك فقال: “أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب”.
أيّ عظمة وأي موكب مهيب كان عند السيدة زينب عليها السلام، هل تأملت ـ عزيزي ـ بهذا الموكب الذي لم يتحدَّث التاريخ الإنساني على طول الدهر عن مثله لا للأنبياء، ولا للنساء وحتى لسيدة النساء فاطمة الزهراء كان لديها مثل هذا الموكب وهذه المرافقة.
فزينب هي أيقونة العفة النسائية، والطهر الآدمية، سيرتها قدوة تُحتذى، ومجدها منارة للأمة جدِّها وللأجيال منها إلى أن يرث الله الأرضَ ومَنْ عليها، لا أحد يدانيها في فخر، ولا يساميها في فضل وذخر، جعلها الله أميرة ابنة أمير المؤمنين وفحل الرجال الإمام علي عليها السلام، وشريكة لأخيها الإمام الحسين في نهضته المباركة.
-
أيقونة الصبر والصمود
مَنْ يقرأ سيرة السيدة زينب لا يبهره طهرها وعفافها وشرفها ومجدها وصيانتها فقط، بل يُحيِّره ويُدهش عقله ما يقرأ عن صبرها وصمودها في وجه العاصفة التي كسرتها، ولم تنكسر أمامها، وزلزلت العروش ودكت الحصون وقلبت الموازين كلها بصبر تعجبت منها الخلائق كلها، وصمود أقوى من الجبال الراسيات وذلك بعد كارثة عاشوراء ومأساتها التي عاشتها بكل تفاصيلها، ورأتها بأم عينها، وسمعت كل كلمة وآهة وصرخة لهم أو عليهم.
فصرخة أخوها الإمام الحسين، عليه السلام، التي حفظها الدهر، ولكن كان صوته هي زينب، وصداه أنينها وبكاءها وعويلها عليه وعلى كل ما جرى عليها في كربلاء، فهي التي حفظت العيال، والرسالة، والنهضة حية طرية متأججة في القلوب والأسماع بما فعلته قولاً وعملاً في الأمة.
فمَنْ كان يستطيع أن يرذِّل الطاغية عبيد الله بن زياد في قصره وهو نشوان في سكرته فتذله وتُخلِّص ابن أخيها الإمام زين العابدين(ع) من بين يدي جَلَّاديه وسَيَّافه رغماً عنه.؟
ومَنْ كان يستطيع أن يكلِّم الطاغية يزيد الشَّر في قصره وبين خَدَمه حَشَمه في دمشق الشام، وهو جذلان وأشر بطر بالنصر فيخاطبه بهذه الكلمات التي جعلته يتمنى أن يكون ذراً تطؤه الأقدام، حيث قالت له في مجلسه: “أمِن العدلِ، يا ابنَ الطُّلَقاء، تخديرُك حَرائرَكَ وإماءَك وسَوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هُتِكت سُتورُهنّ، وأُبدِيت وجوهُهنّ؟! تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوهَهنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف” .
إلى أن تقول عليها السلام له: “ولئن جَرَّت علَيّ الدواهي مُخاطبتَك، إنّي لأستصغرُ قَدْرَك، وأستَعظمُ تَقريعك، واستكبر توبيخك!! لكنّ العيون عَبْرى، والصدور حَرّى ألا فالعَجَب كلّ العجب لقتلِ حزبِ الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء”.!
ثم تضربه بالقاضية بقولها: “فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارها (لا تغسله)، وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد!! يوم ينادي المنادي: ألاَ لَعنةُ اللهِ علَى الظالمين”.
هذه هي اللبوة الحيدرية، والبضعة الفاطمية، التي فاقت الماء طهراً، والسماء علواً، والجبال ثباتاً، والأيام صموداً في وجه أعتى العواصف، وأعظم القواصف في التاريخ البشري على امتداده الطويل ومآسيه الكثيرة، ولكن تبقى مأساة كربلاء هي الخالدة والمتجددة في الزمان والمكان، وعبر العصور والأجيال، تأبى أن تخمد، أو أن تهدأ ببركة تلك الدماء التي هي ثأر الله في هذه الأرض، وصوت السيدة زينب، عليها السلام، التي هي صرخة الحق والعدل، التي نقلت للتاريخ تلك المظلومية التي لا شبيه لها، و”فلا شيء يُشبه كربلاء” كما يقول سماحة السيد هادي المدرسي في أحد كتبه الزينبية العاشورائية الرائعة.
-
السيدة زينب عليها السلام قدوة الأجيال
ما أجمل أن نقتدي بالبطل لكي نهتدي في منعطفات الحياة الحادَّة، ومسارب الطرق ومضائقها، والعلم التربوي الحديث يقول: “أن من أهم قواعد التربية هي التربية بالقدوة”.
فالقدوة الصالحة هي التي تربي أجيالاً صالحة، لأنها تعطي المقتدين المثال المحتذى، والمقياس الذي يُقاس عليه الناس في هذه الحياة، فمَنْ كالسيدة زينب قدوة لنا في العفاف والطهر والصفاء والنقاء والتقوى؟
وأين نجد في الدنيا كزينب، عليها السلام، في الثبات والصمود والصبر والشجاعة في مقارعة الأعداء، وإذلال الطغاة والجبارين من الأدعياء والمستكبرين، كعُبيد الله بن زياد وسيده يزيد الشَّر؟
فحريٌ أن نستلهم من السيدة زينب كل تلك المعاني الراقية، والمباني العالية للجهاد في سبيل الله في هذه الأيام التي نخوض فيها معركة من أشرس المعارك الحضارية الثقافية، والعسكرية القتالية في العراق الحبيب، وسوريا المناضلة، واليمن الصامد، وغيرها من بلادنا التي نُكبت بهذا العدو الغادر من قطعان الظلام التكفيرية.
فهي أيقونة استلهمنا منها الصبر والصمود والشجاعة في مواجهة الأعداء الذي جاؤوا إلى حرمها الشريف وأرادوا بها شراً فأقسمنا: “أنها لن تُسبى مرة أخرى سيدتنا ومولاتنا زينب”، فصمدنا في جوارها فحَمَتنا وحفظتنا في تلك السنوات العجاف التي أحاط بمرقدها الأعداء كالسِّوار في المعصم، ولكنها وفَّت لمَنْ وفَّى لها فحفظت الجميع، حتى أن أحد المجاهدين رآها – روحي فداها – تدور وتتفقد المجاهدين تحت المطر والثلج.
فكنا نشعر بأن قبَّتها الشريفة توسَّعت حتى شملتنا جميعاً، فكانت النبراس والمتراس وكنَّا نلوذ بها في أحلك الظروف، وأشد أوقات الحرب، فتراها تضخُّ في قلوبنا الطمأنينة والسكينة، وفي حياتنا الصبر والصمود في وجه أتباع اليهود من قطعان التكفير المتصهين.
تلك هي زينب عليها السلام، التي لن يعرفها العالَم والأجيال، فهي سرٌ من أسرار الباري تعالى، ونحن تكشَّف لنا بعض نفحاتها المباركة الطيبة في سنوات الحرب الكونية علينا في سوريا حيث كان لي شرف الثبات والصمود بجوارها إلى أن انتصرنا وطردنا الإرهاب ببركتها عن جوارها وحرمها الطاهر وعادت شامخة متألقة كما هي دائماً وأبداً.
فكل عام وأنتم من أحباب السيدة زينب عليها السلام، القدوة والأسوة لنا جميعاً في هذه الحياة..